اتِّفاقية القرن.. اسبابها وانعكاساتها في لبنان!… شفيق ملك

الامعان في النظر الى المشهد السياسي في المنطقة يُظهر الآتي: قِمَم هنا وهناك تُعْقَد، رؤساء دول تتسابق في إبرام اتفاقيات دولية وإقليمية تُسطَّر بنودها على مستوى من الرقي والحضارة، بغية الوصول لحلول عملية متوازنة تستند إلى أسس سلمية تصبوا إلى أمن شعوبها، وركائز اقتصادية جوهرها المصالح المشتركة للشعوب وليست هدفا جلَّه الاحتكار الاقتصادي، آخر إنجازاتها تُوِّجت في أمن واستقرار المنطقة برمَّتها ولو مرحليا خلال 60 يوما، مدة فترة السماح المتفق عليها. في شهر مارس لهذا العام في السادس والعاشر منه، جرت الاتفاقية السعودية الإيرانية، بمباركة ورعاية صينية تكلّلت بعودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بعد أغلاق القنصلية السعودية في مدينة مشهد عقب الاعتداء عليها عام 2016.
بعد حروب بالواسطة دامت أكثر من سبع سنوات، لم يرقَ أي من الطرفين المتخاصمين إلى تتويج إكليل النصر. أبلى الطرفان جهداً كبيراً بعيدا عن بؤر القتال في الأقاليم لتجنب حسيس نيرانها الملتهبة.
الحروب الدائرة في اليمن، العراق، سوريا وآخرها في لبنان، كانت وليدة سرّ هذه الاتفاقية حيث أكسبتها لقباً مميزاً دون منازع ألا وهو “اتفاقية القرن”.
هذا الحوار الطويل بدأ منذ حوالي سنتين بمحادثات متتالية ومتنوعة في المواضيع بصورة جدِّية وكتمان شديد، محادثات ثنائية أقيمت في بلدان مختلفة في العراق، سلطنة عُمان وآخرها في الصين في بكين، حيث أُبرمت هذه الاتفاقية.
بالرغم من موقع دول الجوار حيث دارت المحادثات والاجتماعات ذات الصلة وتحت رقابة شديدة وحَذَرٍ من تسريب للمعلومات الجارية إلى أي طرف كان، بات طابع السرية عنوانها حتى إعلان نتائجها إلى الملأ.
اعتمد الطرفان إتِّباع قاعدة ذهبية عملاً بقول الرسول “استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان”. فاتسمت المحادثات الثنائية بين الطرفين “بسرية تامة”.
من أهم الأسباب وأبرزها في إبرام هذه الاتفاقية ثلاث عوامل رئيسية وهي كالتالي:
أولا:
ـ واقع الوضع الإيراني الداخلي والمأزوم في شتى ساحاته لأشهر متتالية دون انقطاع، ودون الوصول إلى حلول تسوية في الأفق المنظور. قابله على المستوى الدولي انسداد تام لاستئناف المحادثات الدولية المتعلقة بالاتفاق النووي الإيراني، إضافة إلى إصدار عقوبات دولية مباشرة على إيران.
ـ دخول إيران أخيرا في الحرب الروسية الأوكرانية، بتسليح الجبهة الروسية المباشر، بواسطة الطيارات المُسيَّرة التي أحدثت فرقا كبيرا في سير المعركة. هذا الأمر تسبَّب بضغط مباشر من الطرفين الأمريكي والأوروبي على إيران لقيامها بمثل هذا التسليح للجانب الروسي، وبالتالي سرَّع توجه الإيرانيين إلى اللجوء إلى هذه الاتفاقية. منذ عامين وإيران تحاول استعادة العلاقات الدبلوماسية مع السعودية وذلك في مسعى لإنهاء عزلتها السياسية والاقتصادية في الإقليم.
ـ توزيع المواقع الجغرافية لأذرع إيران المحاربة في كل من اليمن، العراق وسوريا، المتضررة من ضربات العدو الإسرائيلي المباشرة داخل الأراضي السورية والتي تستهدف جميع التحركات العسكرية الإيرانية والقوات التابعة لها من جانب قوات الحشد العراقي أو قوات حزب الله المتواجدة أيضا على الأراضي السورية.
ـ الاستنزاف المستمر لتمويل حزب الله في لبنان من مال، عتاد، أسلحة وتزويده بصواريخ منذ سنوات طويلة. كل هذه الأموال الطائلة أدَّت إلى استنزاف حاد في ميزانية طهران العاصمة مما أوصلها بعد حوار طويل للجوء إلى مثل هذه الاتفاقية، ذلك بعد الوصول إلى أفق مسدود في إيجاد الحلول المرجوَّة. السؤال هنا لماذا لم يتُمّ تفعيل الاتفاقية الأمنية بين السعودية وإيران والتي جُمِّدت منذ عام 2001؟
ثانيا: وضع المملكة العربية السعودية الإستراتيجي الاقتصادي وتدهور المنطقة العربية بِرُمَّتِها، أسرع في إبراز هوية المملكة وتحديد موقعها الطبيعي من المعادلة في الإقليم أهمها:
ـ رؤية 2030 للمملكة: من الأهمية بمكان إنجاح هذه الرؤية والإدراك أن هناك ميزانية ضخمة ستنفق منذ تاريخه وحتى إنهاء هذه المرحلة. ليس من الحكمة أو المنطق إنفاق المليارات دون تأمين أدنى أسس الحماية لهذا المشروع المترامي الأطراف بدقة متناهية أي بنسبة (ZERO TOLERANCE). بناء وحماية مشروع نيوم (NEOM) الحديث في المملكة يتطلب خلو البلاد من صراعات خارجية.
ـ موقف الولايات المتحدة الأمريكية منذ زمن، وهو تلكّؤ مقصود في عدم تأمين الغطاء الاستراتيجي المطلوب للحفاظ على أمن المملكة وحدودها، بدأً باليمن والعراق وبالأخصّ حقول النفط التابعة لشركة أرامكو العربية حيثُ استهدفت هذه المنشآت النفطية عام 2019.
ـ حروب اليمن التي استغرقت على الأقل سبع سنوات منذ اندلاعها واستنفذت خسائر بشرية في الأرواح ومادية في العتاد.
ـ لِحْمة الموقف العربي الموحد والرجوع إلى الجذور العربية لإيقاف التدخل والانتشار الإيراني الكبير في المنطقة لا سيما في سياسات وأمن الدول العربية.
ثالثاً: الاتجاه شرقا نحو المارد الصيني كان الخيار الأفضل. الصين قطب أوحد وضامن قوي لرعاية مثل هذه الاتفاقية المميزة في توقيتها في ظل هذا العالم المضطرب والمتخبط في الحروب المختلفة في كل مكان. هذه الاتفاقية أحدثت هزَّة في موازين القوى في الشرق الأوسطْ. تجدر الإشارة إلى حاجة الصين الماسة إلى الثروة النفطية التي ستؤمنها من كلا الطرفين المتنازعين وهما يملكان أكبر ثروة نفطية في المنطقة. وكلتا الدولتين تسيطران على كافة الممرات المائية، الإقليمية والدولية.
ـ أدَّت هذه الاتفاقية المثيرة للجدل إلى تَبَوُّء الصين، القوة الكبرى في الاقتصاد العالمي، مركز راعي أممي كبير. غيَّب هذا الحدث الولايات المتحدة الأمريكية، الوسيط الوحيد لعقود في المنطقة، لينفرد الراعي الصيني بحماية ركائز هذه الاتفاقية.
ـ لحماية الاتفاق بين البلدين، جرى تغطية عدد من القضايا الهامة الشاملة للمخاوف الأمنية، القضايا السياسية والاقتصادية التي تهم البلدين، على أن يتحلى الجانبين بالصبر والحكمة لتحسين العلاقات فيما بينهما. في حال أي شذوذ للمسار فإن المارد الصيني، الضامن لهذه الاتفاقية، قادر على احتوائه.
في خِضَمِّ ما يجري من أحداث متسارعة في المنطقة العربية والساحة الدولية والزوبعة الفريدة التي أحدثتها هذه الاتفاقية، ما زال لبنان يراوح مكانه دون التوصل إلى حل مقبول في مسألة الرئاسة الأولى وتجاوزها. يبقى لبنان عند طابور الصباح ينتظر نسائم الربيع لتهُلَّ بشائرها سواءً من اجتماعات باريس الخماسية المتكررة، أو من رسائل تحملها حمائم “اتفاقية القرن” من خارج الحدود، بعد أن وصلت جميع الحلول المطروحة حتى الآن إلى طريق مسدود في انتخاب رئيس للجمهورية. المواطن اللبناني يثور على نفسه ويناشد المجتمع من حوله لتخفيف ما وقع عليه من ظلم وفقر وقد وصل إلى أدنى مستوى في لقمة عيشه واستشفائه وتعليمه.
أخيراً جاء بالأمس القريب المندوب الرسمي في صندوق البنك الدولي، يحذِّر المسؤولين في لبنان من خطورة الموقف الاقتصادي وتداعياته، والساسة في لبنان ونوابه مازالوا على مواقعهم التقليدية يتصارعون دون جدوى وكأنهم في غيبوبة منتظرين حلا قريبا يهبط عليهم من الخارج وليس قبل شهرين من الآن.
حمى الله لبنان واللبنانيين…
الكاتب: المهندس شفيق ملك
المصدر: سفير الشمال


Related Posts


Post Author: SafirAlChamal