هل تجاوز لبنان زلزال العصر؟… شفيق ملك

بعناية إلهية وفضل كبير من الله العزيز القدير استطاع لبنان المرهون بسيادته أن يتجاوز زلزالاً هائلاً قدِمَ بإكسبرس سريع من الإقليم القريب منه، من جنوب تركيا وشمال سوريا الشقيقة. حَطَّ رِحَالُهُ في جميع أرجاء الأراضي اللبنانية وذلك لصغر مساحة لبنان الجغرافية، زلزال قوي سمي بزلزال العصر، نَجَمَ عن الفالق (Fault) أو الصدْع الذي تَحَرَّكَ في تركيا والبالغ طوله 350 كلم وبعمقٍ تجاوز الكيلومترات في داخل القشرة الأرضية.
بَلَغَت قوة الزلزال 7.8 درجات على مقياس ريختر وهو أشد قوة من زلزال مرمرا الذي حدث عام 1999.
يقع مركزه في مدينة قهرمان مرعش في جنوب تركيا، كما أصاب عشر ولايات تركية أخرى. امْتدَّ إلى شمالي شرق سوريا ضارباً عدداً كبيراً من المدن والقرى في الداخل السوري شاملاً مدن حلب، إدلب، حماه، حمص والقامشلي بمنطقة نهر الفرات وصولاً إلى مدن وقرى الساحل السوري الغربي منه.
لبنان أصابه الزلزال بقوة بلغت 4.8 درجات على مقياس ريختر بمدة وصلت إلى حدود الـ 40 ثانية مصطحبة معها هزات ارتدادية متتالية ومنفصلة تجاوز عددُها المئات لكن بقوة ضعيفة بسبب بعدها عن مركزه.
خَفّفَ لطف المولى عز وجل وطأة هذا المشهد المؤلم عن شعب لبنان حتى لا يزيده شقاء فوق عذاب من جَرَّاء الهزات السياسية والاقتصادية المعيشية منها بالتحديد والتي تتفجرُ كل يوم دون حلول مرتقبة.
استطاع لبنان أن يتجاوز آثار الزلزال الهائلة بأقل ما يمكن من أضرار بشرية كانت أم مادية، أصاب عدداً محدوداً من الضحايا الشهداء من المواطنين اللبنانيين المقيمين في كل من تركيا وسوريا.
استقَرَّ المشهد العام في أرجاء لبنان على هلع شديد وخوفٍ صامت دام لستة أيام متتالية بدأ يزول تأثيره بمرور الوقت، لكن الحديث عنه ما زال قائماً.
وفي السياق أشار رئيس المعهد الوطني الإيطالي للجيوفيزياء البروفيسور كارلو دوغليوني إلى أن الزلزال حرَّك البلاد ثلاثة أمتار إلى الغرب. تصدَّع عدد كبير من المباني سيجرى إحصاؤها في الأيام المقبلة. نعم إنه واجب وطني بامتياز أن يقومَ المسؤولون في لبنان بتأليف لجان هندسية من مختلف القطاعات الرسمية بغية إجراء مسح وكشف ميدانيِّيَن للمباني المتضررة في الأيام المقبلة والإعلان عن نتائجها لاحقاً. هذا العمل الهندسي الفني يتطلبُ جهداً وساعات عمل كثيفة لعدد كبير من المهندسين والفنيين مع تنسيق كامل شامل لكافة الدوائر المعنية المختصة.
جديرٌ بالذكر أن الهزات الارتدادية زادت من خطر المباني المتصدعة الموجودة سابقاً في لبنان ويقدَّر عددها بالمئات، هذه تحتاج إلى حلول سريعة من المسؤولين في الدولة بالرغم من إفلاسٍ سياسي ومالي منذ فترة طويلة.
من الطبيعي أن نجدَ عدداً كبيراً من التشققات نتيجة الاهتزازات الديناميكية (Dynamic Effects) المختلفة في طبيعتها ظَهَرَت في عدد كبير من المباني المشيَّدة في مختلف المناطق اللبنانية. تتباين درجتها حسب تاريخ تشييد كل مُنشأ باستثناء المباني المشيَّدة وفق المعايير الانشائية لمقاومة الزلازل (ACI CODE Seismic Zone 1 and 2).
أعتقد جازماً أن هذه المعايير لم تُعتمد قبل سنة 2011 تاريخ صدور قانون السلامة العامة ومراسيمه التطبيقية بالتعاون مع نقابة المهندسين في لبنان.
هذا يفتح نافذة واسعة لتصحيح وضع المباني العديدة التي شيِّدت قبل هذا التاريخ. يستدعي ذاك جهداً كبيراً من اللِّجان التي ستقوم بالمسح الميداني. التشققات الرفيعة (Hairline Cracks) يمكن تصنيفها وفقاً لموقعها، شكلها، وحجمها في المنشأ نفسه. تأثيرها يختلف باختلاف موقعها في المبنى سواء كانت في الحوائط المشيدة من الخفان الإسمنتي الرملي وهي جدران غير إنشائية وغير حاملة تعتبر فواصل بالمبنى، كذلك الأسْقُف إما أن تكون مؤلفة من أسقف هوردي مع أعصاب خرسانية مسلحة أو بلاطات خرسانية مسلحة. إن أخطر التشققات هي التي تقع مباشرة في الأعضاء الخرسانية الأساسية والحاملة للمباني كالأساسات، شكلها ونوع التربة المؤسس عليها المنشأ، العمدان المسلحة، الجسور الحاملة، ومراكز المصاعد.
هذه المكونات الأساسية من المباني المشيدة وتفاعلها مع العوامل الخارجية المؤثرة تحدد تماما مدى خطورة كل منشأ على حدة. بالمحصلة، استشارة وتكليف الجهات المعنية واللجان الهندسية واجبٌ وطني وعملٌ ضروري لأخذ الحيطة اللازمة من قبل المواطنين جميعاً.
المطلوب عدم الانصياع إلى الهلع الشديد، ولكن عدم الاكتراث ورمي هذه الأمور في صندوق ذكريات الماضي أمر غير مسؤول. على اللجان تحديد طبيعة هذه الأضرار ليتبعه مسارٌ آخر وهو البدءُ بالقيام بالتصليحات اللازمة في أسرعِ وقتٍ ممكن. هنا يكمُنُ سرُّ العوائق جميعها وهو الكلفة المالية. من يَتَحمَّلُها في ظِلِّ التحديات الاقتصادية والمعيشية الراهنة؟ دولة مفلسة ومواطن مقهور يتزامن ذلك مع تباين بين أعضاء حكومة مشتَّتة ومختلفة في الرأي بأن تجتمع أو لا.
مجلس النواب يجتمع ليشرع ولا يجتمع لانتخاب رئيسا للجمهورية ضمن المهلة الزمنية الملحوظة في الدستور اللبناني في حالة الشغور الرئاسي.
كل هذا على حساب أمن المواطن اللبناني وسلامته. أضف إلى ذلك عدم انتظام الدورة الطبيعية في مجمل الحياة السياسية في أرجاء الوطن.
لا يمكننا المرور بعُجالة على آثار الزلزال الذي ضَرَبَ تركيا وسوريا والاكتفاء بتأثيره فقط على لبنان، بل يجب أن نقف عند هَوْل الكارثة التي حلَّت في الجوار في دولة شقيقة وأخرى صديقة. علينا التضامن والمشاركة الفعلية في المساعدات الإنسانية على كافة الصعد.
ارتفع حتى الآن عدد الضحايا إلى خمسة وثلاثين ألف شهيد، الجرحى يعدّون بالآلاف والمشردون دون مأوى تجاوزوا العشرة الملايين.
فاق عدد المباني المدمَّرة كلياً الستة آلاف ناهيك عن تلك المتضررة جزئيا والتي تحتاج إلى تصليحات زد على ذلك دمارٌ شامل للبنية التحتية بما فيها الطرقات العامة. كلفة حجم الخسائر قدِّرت بحوالي الخمس وثمانون مليار دولار أمريكي. أما في الشأن السوري فقد أعلنت واشنطن عن رفع العقوبات الأميركية عن سوريا والسماح بدخول المعونات الإنسانية لمدة مئة وثمانين يوماً.
كذلك نشهد في سوريا نقصاً كبيراً في الكوادر الطبية حيث أنَّ الطبيب الواحد يخدم عشرة آلاف مريض. وصل رقم المشردون في سوريا فقط إلى خمسة ملايين ونصف المليون مشرَّد كلهم بحاجة إلى مأوى. بلسمٌ واحدٌ وجميل أن نرى قلوباً ونفوساً لعدد كبير من المواطنين على مختلف مشاربهم أُنقذوا من تحت الأنقاض. تجدر الإشارة إلى أنَّ الوقت لإنقاذ أحياء من تحت الأنقاض هو قصير ومحدود بستة أيام. سيما أن المساحات الشاسعة لمسرح الكارثة ممتدة في كل الاتجاهات ولا يتناسب ذلك مع الإمكانيات البشرية والمعدات والمساعدات الطبية والغذائية والإيوائية المتاحة.
مهما وصل من مساعدات من شتى الدول الصديقة يُعَدُّ خجولاً أمام هول الكارثة. سيَّما وقد تخلَّل بعض هذه المساعدات مكامن من آثار الفساد السياسي، الدولي والإقليمي.
حجم الكارثة يتطلب فتح جميع المعابر دون استثناء لوصول المساعدات للشعب دون تمييز والحدِّ من معاناته. بعد تحديد الخسائر المادية التي سببتها الكارثة، يجب الإسراع بتكوين مجالس متطورة لإدارة الكوارث الطبيعية، أمامها تحدٍ كبير للنجاح وهي تحتاج إلى صبرٍ وعزمٍ لبناء كل ما تهدَّم. ويبقى الإنسان وما يحملُ من معان سامية وتبقى الذكريات معهُ جُرحٌ لا يَلْتَئِمُ على مَرِّ التاريخ لِما حدثَ في أيامنا هذهِ اسمُهُ زلزال القرن.
حمى الله لبنان من الزلازل الطبيعية ومن زلزاله السياسي المستمِرّ منذُ عقود.
الكاتب: المهندس شفيق ملك
المصدر: سفير الشمال


Related Posts


Post Author: SafirAlChamal