سياسات إيران وانعكاساتها في الإقليم!… شفيق ملك

هدفُ هذا المقال الإمعان في خريطة العالم العربي، انطلاقا من وسط الجزيرة العربية، المملكة العربية السعودية رائدة القِمم المثيرة للجدل حول تحركاتها السياسية بين اقطاب الدول ورؤسائها. توجهاً إلى الخليج العربي حيث دولة الامارات جوهرة الخليج، مروراً بخليج عُمان وساحله: عُمان المفاوض والوسيط الدائم الذي لا يكلُّ ساعياً وراء رأب الحروب العربية وإطفاء حرائقها في الإقليم، وصولاً إلى خليج عدن، اليمن السعيد الحزين بما حلَّ عليه من شقاء وآلام إثر الحروب المستمرة حيثُ القائد العسكري عبد الملك الحوثي، قائدُ أذرُع إيران في شبه الجزيرة العربية، نقضَ واعترضَ، بتوجيه من إيران الثورة كل الاتفاقات الدولية رافضاً الهدنة لوقف إطلاق النار، متسبِّباً بمزيد من مجاعة الشعب اليمني. 

كما أدّى استمرار الحوثي في اليمن بالتعدِّي على حدود المملكة المُتاخمة إلى أضرارٍ فادحة بمنشآتها النفطية ثمَّ عبوراً للبحر الأحمر عبر مضيق باب المندب الى مصر حامية الشعب العربي بمنهج سياساتها المعتدلة: حيث ناشد الازهر الشريف الشعب المصري بتوخي الحذر الشديد من المدّ الشيعي الإيراني الداعي إلى بناء حسينيات شيعية وإلى تشيع المواطنين المصريين وهو أمر لم يلق استحساناً من المسؤولين وقد يثير النعرات الطائفية والانقسامات المذهبية في مصر.

 في هذا المسار، لم يُذكر في تاريخ مصر القديم او الحديث أي حدث مذهبي نشأ عن صراع بين أهل السنة وأهل الشيعة. كان الأزهر الشريف يدعو دوماً إلى الألفة والتواصل مع الآخر في مختلف الظروف دون استثناء. هذا الأمر ينطبق على جميع الدول العربية خصوصاً على لبنان. انما في الآونة الأخيرة حصلت تعديات في داخل مصر على بعض الاحياء السكنية وبإيعاز مِن مرجع سياسي إيراني تمَّت الدعوة الى التشَيُّع الديني وهذا ما أثار حفيظة الأزهر. 

بموازاة شرم الشيخ وصولاً الى خليج العقبة تقع الأردن المملكة الصديقة للجميع دون تمييز بين أشقائها العرب. انطلاقاً من مدينة الرمثا عبوراً للحدود الأردنية السورية نجدُ سورية الشقيقة المغيَّبة منذ زمن طويل عن المسرح العربي. إن ثلث الشعب السوري مهجَّرٌ في داخل وخارج حدوده منذ إحدى عشر عاماً، بينما حروبه الصغيرة تدور رحاها في أرجائه حتى تاريخ اليوم. يقدَّر النازحون السوريون والمتواجدون في لبنان بمليوني نسمة. في المقابل العدو الإسرائيلي يسرح ويمرح بين الحين والأخر بضرباته الجوية مستهدفاً التحركات العسكرية الإيرانية، وتحركات المقاتلين من حزب الله اللبناني في الأراضي السورية. 

لبنان الوطن المرتهن سياسياً، أمنياً واقتصادياً، جزء منه أصبح مركزاً أساسياً في الإقليم لتصدير العديد من المسلحين المقاتلين لمشاركة الآخرين من الدول في حروبهم العبثية، في كل من سوريا، اليمن والعراق، الملاصق للحدود السورية وقد تآمرت عليه بعض من دول العالم الغربي وجزء من دول الإقليم على رأس قائمتها إيران. منذ أربعين عاما وهم يحاولون سلبه ثرواته وتجريده من ثقافته العربية وتدمير حضارة تمثل كنوزاً وتاريخاً يمتد لأكثر من آلاف السنين. هذا ما وصفه أحد وزراء الخارجية البريطاني فور انتهاء حرب الخليج الثانية. هذا ما أكده أيضا بريمر، الحاكم الأميركي للعراق بعد الغزو الدولي الذي دام نصف عام ونيف بقوله لقد أطحنا بألف عام من الحكم السني في العراق. أما المحطة الأخيرة لهذا المسار الجغرافي الطويل فهي الجمهورية الإسلامية الإيرانية المتاخمة للعراق. 

إيران الثورة ومركز الفكر الملالي، أعلنها صراحة المرشد الأعلى الإسلامي آية الله الخميني عام 1979 عن يوم القدس حين نصَّب إيران كمحام للقضايا العربية.

هذه النظرة الشاملة في شبه الجزيرة العربية تُعبِّر عن مدى الترابط الوثيق والتداخل الجغرافي الطبيعي دون عوائق وما آل اليه هذا الواقع الأليم في عالمنا السياسي المعاصر. 

إيران وعاصمتها طهران من أقدم الدول العريقة رائدة في قارة آسيا. تُعدُّ ثاني أكبر دولة بعد مصر في الشرق الأوسط في تعداد سكانها البالغ 85 مليون نسمة وثاني دولة في المساحة بعد المملكة العربية السعودية حيث تبلغ مساحتها 1.645.159 كم مربع. إن الدول المتاخمة لحدود إيران البرية والبحرية عديدة. تقع إيران في القسم الجنوبي الغربي من قارة آسيا: 

تحدها شمالاً أذربيجان، أرمينيا، تركمنستان وبحر قزوين.

جنوباً، الخليج العربي وبحر عُمان.

شرقاً، أفغانستان وباكستان.

غرباً، تركيا والعراق.

لرؤية شاملة أحرى بنا أن نصف مكونات الشعب الإيراني، تعدده وانتشاره في الإقليم والدول المجاورة له. يتألف من فرس 63%، أتراك (الازر والتركمان) 20%، عرب 8%، أكراد 6% والنسبة المتبقية 3% هي من جنسيات وعرقيات مختلفة. 

هذا النسيج المختلف الألوان يعود الى الطبيعة الجغرافية التي تحيط بإيران والملاصقة حدودها البرية والبحرية بدول عدة تحمل في ثناياها هذا الخليط البشري. يفرض الدستور الإيراني قيوداً على الحريات الدينية حيث ان الدين الإسلامي هو الدين الرسمي في البلاد والمذهب المتبع هو الشيعي الجعفري (الاثني عشري) علماً أن حوالي 90% من السكان هم من الشيعة و10% من السنة.

إيران لها باعٌ طويل بين الدول المجاورة لها بفتوحاتها التوسّعية. تاريخها في المعترك السياسي يعود الى آلاف السنين. مشهورة بحنكة ساستها اللذين يعملون بتخطيط وصمت. ناهيك عن دقة الحبكة اشبه بحياكة السجاد العجمي الشهير بدقته.  

هذا في الجغرافيا والديموغرافيا والانثروبولوجيا عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فماذا عن الصراع السياسي القائم بين إيران والعرب، الذي يعود تاريخه بقدم التاريخ الإسلامي العربي، أي أكثر من 1300 سنة. حين بدأ الغزو العربي لدولة فارِس في منتصف القرن السابع، وشاهداً له معركة القادسية الشهيرة بتاريخ نوفمبر 636 ميلادي. معركة القادسية، أحد معارك الفتح الإسلامي لفارس، وأحد أهمّ المعارك لفتح العراق، انتهت بانتصار المسلمين على الفُرس. وصولاً الى العهد العباسي الذي أثار جدلاً مشهوراً حول ما يسمى “بالشعوبية”. إن الدين الإسلامي لا يُميِّز بين شعب وآخر إلاَّ بأعمالهم وبما كسبت أيديهم في الدنيا وهو المقياس الوحيد بين البشر، وليس بألوانهم وألسنتهم.  

بالمحصِّلة لا نحتاج العودة الى آلاف السنين لنُثبت وجود هذا الصراع القديم، انما نكتفي بالعودة الى خمسين سنة فقط من الاحداث، نتوقف عند عام 1971 ميلادي، المحطة الأولى، إيران الشاه قامت بالاستيلاء على الجزر الثلاث الواقعة في الخليج العربي، تعود ملكيتها لدولة الامارات العربية وهي الجزر “أبو موسى، طنب الكبرى، طنب الصغرى”. هي جزر استراتيجية منها جزيرة أبو موسى واحدة من 6 جزر تشكل أرخبيل مضيق هُرمُز جنوب الخليج العربي وذلك في سبيل التحكم الاستراتيجي لمضيق هُرمُز من قبل إيران. وقد سبق وأعلن الحوثي سيطرته على مضيق باب المندب والتحكُّم المباشر بسير الملاحة في حوض البحر الأحمر.

بتاريخ 29/3/2015 ميلادي في قمة شرم الشيخ العربية، والقِمم الثلاث التي انعقدت بتاريخ 10 ديسمبر 2022 ميلادي في مدينة الرياض، دعى البيان النهائي لكل من هذه القِمم حكومة إيران لإنهاء احتلالها للجزر والكفِّ عن فرض الأمر الواقع بالقوة، بهدف تغيير التركيبة الديموغرافية للجزر الثلاث أو اللجوء الى الحلول السلمية حسب القانون الدولي. 

مرت الاعوام والوضع على حاله وما زالت الجزر تحت السيطرة الإيرانية. في أعقاب قمة الرياض، جاءت قمة بغداد رقم 2 بالأردن في 20 ديسمبر 2022 ميلادي في منطقة البحر الميت، بمُسمَّى “بغداد للتعاون والشراكة” الذي شارك فيها عدد كبير من دول الجوار بما فيها إيران، العراق والمملكة العربية السعودية مع تبنِّي دولي من فرنسا والاتحاد الأوروبي. هذه القمة العربية تميزت باهتمامها الشديد لما يجري من احداث على أرض العراق. جاءت دول الجوار، تحمل همّاً واحداً، وهو الشأن العراقي، على رأس جدول أعمال المؤتمر، الوضع في العراق، سوريا، لبنان والملف النووي الإيراني. مؤتمر بغداد 2 أكَّد على أمن واستقرار العراق ورَفَضَ أي تدخل في شؤونه الداخلية. رئيس الوزراء العراقي محمد السوداني، الذي جاءت به إيران كان منفتحا بالرغم من أنه أقرب الى إيران من الرئيس السابق الكاظمي، متمسكاً ببناء علاقات جيدة مع الجوار وعدم الاصطفاف في المحاور. الرئيس الفرنسي شدد بدوره على عدم التدخل وألا يكون العراق مسرحاً للتجاذبات الإقليمية. الرئيس المصري ووزير الخارجية السعودي عبَّرا عن اهتمامهما بالعراق ورفضا أي تدخل خارجي يؤدي الى عدم الاستقرار في المنطقة.

كما أكّد محاربة كل أنواع التطرف، والإرهاب، واثارة النعرات، والانقسامات. مسؤول العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي نادى باحترام وحدة أراضي العراق من جميع الأطراف، كما جاء على لسان الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي الإصرار على أهمية العراق وهويته العربية. 

بالعودة الى تاريخ 1925 ميلادي، كانت الأحواز إمارة عربية في عهد الانتداب البريطاني، ضمَّها الشاه الإيراني وأعدم حاكمها، بعد اكتشاف النفط في المنطقة.

حرب الخليج الأولى التي استمرَّت حوالي 8 سنوات انتهت بلا انتصار وقبول الأطراف المتحاربة لوقف إطلاق النار. في ظل هذه الحرب ظهرت فضيحة “إيران كونترا” (Iran Contra Affair) او فضيحة إيران جيت (Iran gate). أميركا تمثل الشيطان الأكبر بالنسبة للإيرانيين رغم انها تزوِّد إيران بأسلحة متطورة وإسرائيل تقوم بتوصيل هذه الصفقة بكاملها الى إيران، عدى عن ضرب إسرائيل المفاعل النووي في العراق. في هذه الحرب ظهر تعاوناً إيرانياً اسرائيلياً ملموساً غايته المشتركة هي ضرب العراق وكسب الحرب عليها.

في حرب الخليج الثانية غزى رئيس الولايات المتحدة الأميركية جورج بوش الابن العراق، بتحالف دولي كبير، متسلحا بفكرة ان العراق يمتلك أسلحة الدمار الشامل. 

تم تدمير العراق تدميراً كاملاً ومُني بخسائر فادحة في البنية التحتية عدا عن الخسائر البشرية التي بلغت المليون، وتُركَ العراق وشعبه منذ ذلك الحين تحت هيمنة وسيطرة إيران حتى تاريخه، دون وجود أثر لأسلحة الدمار الشامل.

أظهرت القمة الإقليمية في الأردن ضغطاً في إبعاد العراق عن إيران. وهذا أمر جيد لما يجري حالياً في بغداد العاصمة. في حين أظهر وزير خارجية إيران استعداد بلاده لاستئناف العلاقات مع السعودية وفتح سفارتي البلدين. انما في الواقع العلاقات السعودية الإيرانية ما زالت تُراوح مكانها. وقد يعود هذا الى عدم تقدم ملموس في ملف اليمن الشائك وموقف الحوثي المتشدد. 

في الملف الإيراني النووي، الخارجية الأميركية ملتزمة بألاَّ تمتلك إيران سلاحا نوويا والإيرانيون فوَّتوا فرصة العودة السريعة الى الاتفاق. المفاوضات النووية الإيرانية وصلت الى طريق شبه مسدود ووزير خارجيتها زار سلطنة عُمان لمزيد من التشاور في هذا الشأن. 

لا شك أن الأحداث الجارية الآن في إيران منذ بضعة أشهر تجعلَها تواجه أزمة سياسية كبيرة تحتاج الى حلول. ربما يدفعها الأمر للهروب الى الامام ويضطرها الى مزيد من تفعيل أذرعتها في الإقليم، أي في كل من اليمن، العراق، سوريا ولبنان. في لبنان يكفي ذكر تعطيل اجراء انتخاب رئيس للجمهورية وشل الحكم في كافة اركان الدولة وتدهور سعر صرف الليرة وتهريب للثروات اللبنانية خارج حدوده. من المحتمل بروز أزمة جديدة وهي ازمة خلافة خامنئي او الخروج عن نظرية ولاية الفقيه عندئذ يصبح الحكم كله بيد الحرس الثوري الإيراني، كل هذه الاحتمالات تُترك جانباً الآن ويُترك هذا الأمر أمام الشعب الإيراني الثائر ومدى تحملّه وسيره في هذه الانتفاضة الشعبية.

  

الكاتب: المهندس شفيق ملك


Related Posts


Post Author: SafirAlChamal