لم يكن فلاديمير بوتين يحتاج الى الحوافز الإيديولوجية من المحيطين به والمقربين اليه لتبرير حربه الشرسة على أوكرانيا إذ يشير سامي عمارة وهو من – أكثر الصحافيين إلماماً بالشؤون الروسية من سنوات طوال- بقوله إذا كانت هناك قضية تخرج بوتين من صمته فهي القومية الروسية، فهو رجل قومي حتى العظم يريد إستعادة أمجاد الإمبراطورية التي كانت. وهو بالتالي أثبت عملياً عبر تجربته مع الشيشان انه سيواصل نهجه في إتخاذ أي إجراء ضروري من أجل تنفيذ مصالح روسيا العليا.
لكن نهج بوتين – يتابع عمارة- وُصف مراراً بأنه يتنافى مع حقوق الإنسان والحريات العامة، وهو أيضا وفي هذا الصدد له منتقدون داخل روسيا مثلما له منتقدون خارجها، كان ذلك خلال عرضه لـ”بروفايل” تناول فيه شخصية بوتين “صاحب القبضة الحديدية في قفاز من حرير” على صفحات الشرق الأوسط يوم الجمعة الواقع فيه ١ كانون الأول /ديسمبر ٢٠٠٦.
والأهم في هذا السياق أن بوتين يمتلك شخصية تميل الى الغموض والصمت لا سيما أن سنوات عديدة من حياته قضاها في الإستخبارات الروسية وعمل من وراء الستار في السنوات الحاسمة التي سبقت سقوط الإتحاد السوفياتي. وهذا ما أضاءت عليه ماري ديجيفسكي في موقع “الإندبندت عربية” بتاريخ 21 شباط / فبراير 2022 حيث رأت ان الغرب قد عجز عن فهم بوتين حتى بعد عقدين من حكمه حتى أن بريطانيا لا تحاول فهم روسيا بل تبدو أسيرة قول ونستون تشرشل المأثور “إن روسيا لغز يلفه الغموض داخل أحجية”.
ومع ذلك، يبدو من وجعة نظر ماري ديجيفسكي أن العالم الغربي يجده صعباً على فهم بوتين في الوقت الحالي، على غرار ما كان الوضع عليه حين كان لا يزال مجهولاً نسبياً لدى تعيينه في 1999 رئيساً للوزراء، ورئيساً مقبلاً للبلاد من قبل الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين العاجز.
ولا ينبغي للغرب بكل ما لديه من قدرات متطورة للرصد والمراقبة، وفرق المتخصصين في الشؤون الروسية المدربين تدريباً رفيعاً، أن يتخبط هكذا، ويؤجج إحتمالات نشوب حرب عالمية ثالثة، في خطوة تبدو، في أحسن الحالات، كأنها محاولة يائسة للردع، ومن شأن الإجراءات التي تتخذها الولايات المتحدة وعدد من الدول الغربية أن تفضي إلى دمار أوكرانيا، وهي الدولة ذاتها التي يقولون إنهم يحاولون حمايتها. فمن خلال سحب الدبلوماسيين ومراقبي وقف إطلاق النار التابعين لهم، وإعطاء تعليمات لمواطنيهم كي يغادروا، وإيقاف رحلات الطيران التجاري، وجعل عمليات التأمين باطلة، وبقية الإجراءات المماثلة، فإنهم يقوّضون الثقة بالإقتصاد الأوكراني ويهددون إستقرار كييف السياسي. وسواء اتُّخذت تلك التحركات كإجراء احترازي حقيقي أو استُعملت لمجرّد دعم تحذيراتهم الخطابية، فإن العاقبة ربما تكون وخيمة وسط عناد وإحجام من قبل كثيرين في الغرب، سواء كانوا حكومات أو متخصصين، بالإمتناع عن الإصغاء فعلاً إلى ما يقوله بوتين ومسؤولوه وعدم الإكتراث من شأنه أن يرسم صورة لبوتين كأنه شخص شغوف بإثارة الحروب، وتصريحاته لا تستحق أن يضيع عليها أي جزء من الأوقات. وترفض معظم الدول الغربية ببساطة الحجة المتعلقة بعدم شعور روسيا بالأمن رفضاً تاماً، بل تعتبر أنه يستعصي فهم السبب في شعور بلاد ضخمة وقوية ظاهرياً إلى ذلك الحد، بأن الخطر يحدق بها. وربما أمام هذا الواقع من الضروري توضيح أن الفشل الذريع في فهم بوتين، وكذلك فهم روسيا، من خلاله. وتفترض ماري ديجيفسكي مرةً أخرى أنه لو بذلنا جهداً أكبر لفهم دوافع بوتين ومن أين ينطلق، أي من روسيا، مع كل الخصوصيات التي تنبع من تاريخها وجغرافيتها، فلربما كنّا في الأقل قادرين على بدء محادثة عادية معه.
ويدلي الباحث عاطف الغمري برأيه على صفحات “مجلة الخليج” الصادرة بتاريخ 23 آذار/ مارس 2022 فيلفت الى أن الولايات المتحدة الأميركية تدرس شخصية بوتين منذ مدة عشرين عاماً وكان هناك تركيز من الخبراء المختصين لديها في فرع من الدراسات النفسية، على شخصية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وكان هذا الاهتمام مستمراً في عهود الرؤساء سواء كانوا جمهوريين أو ديمقراطيين.
ويرى كذلك ان واحدة من هؤلاء الخبراء، وأكثرهم خبرة بالشؤون الروسية هي “فيونا هيل”، التي كشفت مؤخراً في كتابات لها عن الدراسات التي تناولت شخصية بوتين من كافة جوانبها السياسية والنفسية، لكنها وسعت دائرة الرؤية للشخصية، لتشمل إدارة الأزمة الحالية بين أمريكا والغرب، وبين روسيا، بحيث طرحت وجهة نظرها باعتبارها صاحبة خبرة في الشأن الروسي، وبدأتها بالقول “إن الوقت لم يضع بعد سواء لأوكرانيا، أو لحلف الناتو، من أجل تفادي صدام عسكري ليس لمصلحة الطرفين”.
وقالت: “إذا كان بوتين يتصرف بوازع من عاطفته الإنسانية، وهو مستعد لاستخدام كل الأسلحة المتاحة له، إلا أن ذلك لا يجعلنا نفقد الأمل في التفاهم. وهو كما يظهر من خطبه الأخيرة، فإنه يتملكه تشاؤم من مواقف الغرب تجاه روسيا، وهو ما كان واضحاً من تبريره للحرب على أوكرانيا”.
وحين يتحدث بوتين عن سلوكيات الغرب تجاهه، فكأنه يقول لنا ” إنكم قمتم بغزو العراق – وغيره – فليس من حقكم أن تقولوا لي لا تفعل في أوكرانيا نفس ما فعلناه نحن”. ثم تشرح فيونا هيل، الدور الذي قام به فريق الأبواب الخلفية تجاه الأزمة حول أوكرانيا، وتقول “إنني كنت ضمن فريق للمخابرات الوطنية الأمريكية مهمته تحليل لما يمكن لروسيا أن تفعله، رداً على إعلان حلف الناتو فتح أبوابه لمن يريد الانضمام إليه، وكان المقصود بذلك الدول صاحبة العضوية السابقة في حلف وارسو، والجمهوريات التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي، والتي استقلت بعد تفككه، والتي تقع على مقربة من حدود روسيا”.
وتضيف ” وصل تحليلنا إلى وجود خطر من لجوء روسيا إلى عملية عسكرية رداً على ذلك، وكان نوعاً من عملية استباقية، وكانت توصيتنا أن علينا التعامل بحذر وبجدية مع هذا الاحتمال، وأيضا بعلاقتنا مع روسيا”.
لكنها قالت أيضاً: «للأسف إن لدينا في أمريكا سياسيين، وشخصيات عامة ترى أن ظلماً قد وقع من “الناتو” على بوتين، وإن لديه الحق في أن يفعل ما فعله، وإن ما تفعله روسيا هو عين الصواب، فهي تدافع عن حق لها، ثم إننا قد ارتكبنا أخطاء رهيبة”. صحيح أنه لا يحق لأي دولة تدمير دولة أخرى على غرار ما حدث لأوكرانيا، لكن ما حدث هو أن بوتين قد فتح في أوروبا باباً كنا نعتقد أنه أغلق بعد الحرب العالمية الثانية.
وتحدثت عما يتوقعه البعض من نشوب حرب عالمية ثالثة، فقالت إننا الآن نعيش في أجواء حرب ساخنة حول أوكرانيا، لكن سخونتها لم تحدث فجأة. فقد كانت لها مقدمات منذ عدة سنوات، وعلى الأرجح منذ عام 2014، وتركت ظروفها لتصل إلى حد المواجهات العسكرية التي أصبحت أوكرانيا ميداناً لها، فإن أزمة أوكرانيا قد سبقها عشرون عاماً من توسع حلف الناتو في اتجاه حدود روسيا. إن الرؤية التي طرحتها “فيونا هيل” الخبيرة في دراسة روسيا وقائدها بوتين، والتي كانت شريكاً متميزاً ضمن الفريق الذي تخصص في دراسة شخصية بوتين، تمثل رؤية صادرة عن قراءة ما يدور في عقل رئيس روسيا، وأي قرار مهم يوشك أن يتخذه، وهي رؤية كان مطلوباً منها أن تضع تحت عين الرئيس الأمريكي وإدارته، حقائق مجردة، لا تلتزم بالموقف الرسمي للإدارة، وبالتالي فإن قراءة التحليل الذي عرضته، في ظروف أزمة دولية شديدة الخطورة، يبتعد في مضمونه ولغته عن اللغة الصادرة عن رؤساء وقادة الدول المتواجدين عملياً في قلب هذه الأزمة، وبالأخص قادة الولايات المتحدة، وحيث تضع “فيونا هيل” أمامهم موقفاً ينصح بتهدئة الصراع المتزايد على المستوى العالمي، الذي يهدد الجميع، ويرتبط بذلك ما طرحته عن أخطاء لكل أطراف الأزمة، ودون أن تبرئ أحداً.
وما يثير الدهشة والعجب في آن معاً ان الغرب يقضي سنوات طوال في دراسة وتحليل شخصية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حين أن الأخير على بينة في أن الولايات المتحدة الاميركية تحاول إطالة أمد الصراع في أوكرانيا، وكذلك باستفزاز الصين عبر تايوان، معتبرا أن روسيا والصين تحافظان على سيادتهما في مواجهة الهيمنة الغربية، كان ذلك خلال خطاب ألقاه بمنتدى موسكو للأمن الدولي في 16/8/2022 ومضيفاً إن الدول الغربية تسعى إلى مد نظام شبيه بحلف شمال الأطلسي “ناتو” (NATO) إلى منطقة آسيا والمحيط الهادي، وإنها تحمل روسيا مسؤولية “فشله” وتحاول خلق كتلة جديدة في آسيا. وقال إن الولايات المتحدة تحاول أيضاً صب الزيت على النار في مناطق أخرى حول العالم كما يجري في تايوان، معتبرا أن زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي إلى تايوان في أغسطس/آب الجاري استفزاز “مخطط بدقة”. ورأى بوتين أن عالماً متعدد الأقطاب ومبنياً على القوانين الدولية هو لمصلحة الجميع دون إستثناء، معلنا أن “روسيا والصين تحافظان على سيادتهما في مواجهة الهيمنة الغربية”. كما اعتبر الرئيس الروسي في كلمته أن الغرب بحاجة دائمة للأزمات للحفاظ على هيمنته على العالم.
Related Posts