دوافع ومحركات النزاع الإيديولوجي في الحرب الروسية الأوكرانية (14)… صبحي عبد الوهاب

بات من الواضح تمام الوضوح أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يدرك تمام الإدراك أن الولايات المتحدة الأميركية بما تمتلك من نزعة أمبرطورية متعاظمة تريد بسط نفوذها الآحادي وهيمنتها على العالم، وهذا الإدراك يضع حداً للعلاقة ” الشديدة الخصوصية” التي بدأت ترتسم ملامحها بعيد زوال الإتحاد السوفياتي من الوجود، وكانت روسيا على قاب قوسين أو أدنى بأن تصبح الحليف القريب والشريك الإستراتيجي في قضايا كثيرة وهي كانت أيضا بعد طي صفحة الحرب الباردة على أعتاب حلف ” الناتو” لتكون عضواً كامل الأهلية فيه بعدما كانت المستهدف الأول والأخير لهذا الحلف الذي يعرف القاصي والداني إنه لم يتأسس إلا للوقوف في وجه الجنود السوفيات الحمر.

وهكذا بدت روسيا في وقت من الأوقات و”بدفع أميركي” لتصبح الدولة الثامنة في التجمع الصناعي العالمي المعروف بإسم “مجموعة الدول الصناعية السبع” وتحظى بمكانة شبيهة بمكانة الدولة الأولى بالرعاية من جانب الولايات المتحدة الأميركية وباقي دول المجموعة التي قررت منح روسيا منذ أكثر من عقد مضى نحو ٢٠ مليار دولار على مدى عشر سنوات لكي تتمكن من من تفكيك مخزون ” البلوتينيوم” المشع خوفاً من أن يقع في أيدي الإرهابيين.

ومن ثم، وبصورة أخرى مختلفة تماماً، تبدلت أجواء الحرب الباردة التي ظلت تخيّم على سماء العلاقات الروسية الأميركية ردحاً من الزمن لتحل محلها أجواء غير مسبوقة من التقارب الى حد ” الإندماج” والتعاون الى حد ” التماهي” ، وتبلورت هذه الصيغة التكاملية لدى مستشارة الأمن القومي الأميركي حينذاك كوندوليزا رايس وكان مفادها أن روسيا وإن دفعها الشطط أحياناً في أن تتخذ بعض المواقف المعارضة للولايات المتحدة الأميركية لكنها تبقى الحليف القريب.

ولم يمضي وقت طويل حتى بات التحالف الروسي الأمريكي مستحيلاً، لوقوع بوتين تحت تأثير مجموعة من خصومه داخل روسيا وهم المنتشرون في مختلف مواقع القيادة والقرار وهم ليسوا ضعفاء من حيث النفوذ كما وصفهم “بيار لوران” في مؤلفه ” التحالف غير المعقول بين روسيا وأميركا” التي تبقى تلك الأخيرة قوة معادية، وما ساعد على ترسيخ قواعد المعارضة الروسية الشديدة تجاه سياسة بوتين السابقة في الإنفتاح على الغرب، هو ما بدأت تشهده أوكرانيا من حركات إنفصالية في العام ٢٠١٤ في القسم الشرقي منها وبالتالي مطالبة تلك الحركات بإجراء إستفتاء على ” فدرلة أوكرانيا ” مقابل تغني الليبراليون في الغرب المسالم، وأوكرانيا المسالمة، فلم يتردد المحلل السياسي الروسي سفياتوسلاف كنيازيف من موقع ” بوليتراشا” الروسي في ١٩ أيار/ مايو ٢٠١٦ وفي ترجمة عربية لذلك التحليل السياسي الذي تم نشره من إعداد علي شرف الدين على الصفحة الرابعة عشرة ١٤ من صحيفة “الحياة اللندنية” قبل إحتجابها عن الصدور بتاريخ يوم الأربعاء الواقع فيه ٢٢ حزيران/ يونيو ٢٠١٦ بقوله:” إن أحداً لا يترك روسيا بسلام، لذا حري بموسكو إلتزام المبدأ القديم القائل ( إذا كنت تحب السلام فإستعد للحرب) وهو ما يحصل اليوم في أوكرانيا خصوصاً وفي شبه جزيرة القرم عموماً.

وغدت الدراسات المتخصصة تذهب الى حد إعتبار الأزمة الأوكرانية أنها تعيد تشكيل المشهد الدولي بفعل تأثيراتها اللاحقة على النظام العالمي الذي يشهد بدوره مخاضاً لولادة نظام جديد يعيد النظر في العلاقات الدولية في المرحلة التاريخية الراهنة و يرى الدكتور محمد كمال أستاذ العلوم السياسية في رؤيته التحليلية التي عرض مضامينها في الصفحة ٩٩ وما بعد في عدد إبريل/ نيسان ٢٠٢٢ من “مجلة السياسة الدولية المصرية الفصلية” التي وجد فيها وإستنتج أن الأزمة الأوكرانية تمثل لحظة فارقة في تاريخ العلاقات الدولية، وسوف تمتد تداعياتها لسنوات قادمة ، كما إنها تجسد لحظة تجري خلالها مراجعة عدد من من الإفتراضات والمعطيات التي قامت عليها التفاعلات الدولية في السنوات الأخيرة وفي ذلك رصد ومتابعة حثيثة لبعض تلك المراجعات ودلالاتها التي ربما لم تتضح كلها بعد، لكنها بدأت تلوح في الأفق مع مجريات الأزمة المستحكمة.


Related Posts


Post Author: SafirAlChamal