دوافع ومحركات النزاع الإيديولوجي في الحرب الروسية الأوكرانية (11)… صبحي عبد الوهاب

لا زالت النخبة السياسية والثقافية في الغرب، تحاول فهم الخلفيات والدوافع التي حملت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على شن حربه الضارية على أوكرانيا، ولا زالت تلك النخب تبحث عن الأيديولوجيا والثقافة والأصول الفكرية لحرب بوتين الروسية على أوكرانيا وعن المبررات الفكرية والثقافية وحتى الدينية التي تشكل بمجموعها عوامل محتملة للحرب إضافة إلى الأبعاد الجيوسياسية والإقتصادية والعسكرية المعروفة من أصحاب الإختصاص والمتابعين.

وتظهر في هذا السياق الإشكالية الكبرى التي تستند على سلسلة تساؤلات متتالية، فهل كانت خطوة بوتين عقلانية أم رد فعل متهور ومجنون؟ حيث يصر البعض من الباحثين على أن الجوانب السياسية والإستراتيجية لا تكفي لتبرير الحرب، ويندفع البعض الآخر – حيث أشارت الى ذلك – الجزيرة نت- أنهم يبحثون عن مفكر ملهم للرئيس الروسي ربما يكون دافعه للحرب على طريقة المثقف المثير للجدل غريغوري راسبوتين الذي كان مستشارا نافذا في بلاط الإمبراطورية وملهما ومقنعا للقيصر نيقولا الثاني وزوجته ألكسندرا فيودوروفنا حتى زمن قيام الثورة الروسية عام 1917. ولكن من المعروف ومن خلال البحوث والدراسات التاريخية والسياسية أن راسبوتين كان معارضا للحرب، وظل يتوسل للقيصر ألا يتورط في القتال مع العثمانيين في البلقان عام 1913، وتنبأ الراهب واللاهوتي بزوال حكم أسرة رومانوف إذا دخلت الحرب، وبالرغم من ذلك دخل القيصر الروسي الحرب العالمية الأولى التي فقد فيها أكثر من 4 ملايين روسي أرواحهم. وهكذا تبدو المقارنة مع راسبوتين معكوسة، فقد كان الراهب معارضا بشدة للحرب واستخدم نفوذه على الإمبراطورة والقيصر في محاولة لتجنبها، فيما المثقفون المقربون من الرئيس الروسي قد يكونون من داعمي الحرب.

وفيي مقالة للبريطانية مارلين لارويل التي كانت تعمل باحثة في مركز دراسات العالم الروسي والقوقازي وأوروبا الوسطى في المدرسة العليا للدراسات الاجتماعية في باريس. وقبل أن تصبح مديرة معهد الدراسات الأوروبية والروسية بجامعة جورج واشنطن فقد كتبت وأصدرت كتابها الشهير ” الخروج من الحقبة ما بعد السوفييتية – الجنوح الاستبدادي” الذي عالجت فيه كما أشارت صحيفة البيان الإمارتية في 17 أيلول- سبتمبر 2007 الى يروز الرهانات الجديدة التي تواجهها جمهورية روسيا الإتحادية حيث أظهر الروس بعد إنهيار الإمبرطورية السوفياتية حماسهم بالإبتعاد سياسيا عن النهج السابق والاقتراب اقتصاديا من الليبرالية في إطار العولمة.

ومن ثم أشارت الى أنه في المشهد الروسي الراهن لا يوجد أحد يمكن وصفه بالمعلم لبوتين فالواقع أكثر تعقيدا، ومع ذلك هناك العديد من المصادر الأيديولوجية التي تسبب خلطها بالحرب الكارثية، وكلها عملت من خلال “بلاطه” على إنجاز مهمة إعادة أوكرانيا كدولة للدوران في فلك روسيا.وأشار بوتين بدوره خلال خطابه الذي ألقاه في نادي فالداي (المكافئ الروسي لمنتدى نقاش النخبة دافوس) في سبتمبر/أيلول 2021 وتناقلته مختلف وكالات الأنباء العالمية وحظيت الجزيرة نت بترجمته الى العربية إلى 3 مؤلفين مؤثرين هم : الفيلسوف اللاهوتي المولود في كييف نيقولا بيرديائيف (1874-1948)، وعالم الأعراق السوفياتي ليف غوميليوف (1912-1992)، والمنظّر الأيديولوجي إيفان إيليين (1883- 1954)، فإستعار بوتين من غوميليوف مفهومه الأكثر شهرة، أولا: المصير التاريخي المشترك لشعوب أوراسيا وتعدد الجنسيات الحقيقية لروسيا، في مقابل القومية العرقية الروسية، وثانيا: فكرة “العاطفة” كقوة حية خاصة بكل مجموعة تتكون من طاقة كونية حيوية وقوة داخلية كما صرح بوتين في فبراير/شباط 2021 “أنا أؤمن بالعاطفة، في نظرية العاطفة روسيا لم تبلغ ذروتها، نحن في مسيرة التنمية، لدينا شفرة وراثية لا نهائية، وهي تقوم على اختلاط الدم”. كما أشار بوتين في عدة مناسبات إلى رؤية إيليين لمصير روسيا الفريد المفترض ومركزية قوة الدولة في التاريخ الروسي، وقد لاحظ أيضا بالتأكيد كراهية إيليين الغاضبة لأوكرانيا. وبالنسبة لإيليين سيحاول أعداء روسيا إخراج أوكرانيا من فلك روسيا من خلال الترويج المنافق للقيم الديمقراطية بهدف جعل روسيا تختفي كخصم إستراتيجي، وقد كتب “أوكرانيا هي منطقة روسيا الأكثر عرضة لخطر الانقسام والغزو، الانفصالية الأوكرانية مصطنعة وخالية من أسس حقيقية، لقد ولدت من طموح قادتها والمكائد العسكرية الدولية”.وبالرغم من ذلك كله ، فإن إسناد رؤية بوتين لأوكرانيا إلى إيليين فقط هو فشل في فهم أنه من الشائع بالنسبة للمفكرين الروس القول إن أوكرانيا جزء لا يتجزأ من روسيا وواحدة من نقاط الضعف في مواجهتها مع الغرب.كان الآباء المؤسسون الأيديولوجيون للنزعة الأوروآسيوية في العشرينيات أيضا مناهضين بشدة للأوكرانيين، فقد استنكر الأمير بيوتر تروبيتزكوي الثقافة الأوكرانية ووصفها بأنها “ليست ثقافة، بل صورة كاريكاتيرية”.وأوضح جورج فرنادسكي أن “الانقسام الثقافي (بين الأوكرانيين والبيلاروسيين) هو فقط خيال سياسي، من الناحية التاريخية من الواضح أن الأوكرانيين والبيلاروسيين هم فرعان لشعب روسي فريد”.ومن بين الأيديولوجيين المعاصرين استشهد المراقبون الغربيون بحماس ألكسندر دوغين باعتبار أن له تأثيرا قويا على بوتين، وهو الرجل الذي يوسوس في أذن بوتين ويعتبر من أكبر المدافعين عن “روسيا  الجديدة” والطرح الأوراسي بحثاً عن هوية روسية مخالفة لما أرسته القيصرية والبلشفية وما بعد تفكيك الاتحاد السوفياتي بحسب إميل أمين في موقع إندبندت العربية يوم الأربعاء الواقع فيه 2 آذار/ مارس 2022

وقد كان دوغين بالفعل وبشكل دائم عدوا لأوكرانيا المستقلة “أوكرانيا كدولة ليس لها معنى جيوسياسي” كما كتب في كتابه “أسس الجغرافيا السياسية”، ودعا إلى أن تستوعبها روسيا بالكامل تقريبا وترك معظم المناطق الغربية من أوكرانيا خارج نطاقها. لكن بحسب الكاتبة مارلين لارويل فإن دوغين هو راديكالي وغامض للغاية في صياغاته، مما يقرب أفكاره من كلاسيكيات اليمين المتطرف الأوروبية التي لا تستطيع التماشي مع احتياجات إدارة بوتين، لقد كان أحد المروجين الأصليين لمفهوم جيوسياسي لأوراسيا وروسيا كحضارة مميزة في التسعينيات، لكن هذه الموضوعات أصبحت أفكارا سائدة بصرف النظر عن استخدام دوغين لها في العقود التالية، ولم يكن دوغين أبدا عضوا في أي من العديد من منظمات المجتمع المدني المهمة حتى لو كان قادرا على إلهام بعض المؤثرين في دوائر الصناعة العسكرية والخدمات الأمنية، بحسب الكاتبة لارويل. ومن بين المفكرين الآخرين الذين يدافعون عن المهمة الإمبراطورية الروسية اثنان من رعاة دوغين: رجل الأعمال الأرثوذكسي كونستانتين مالوفيف الذي يقود قناة على الإنترنت ومجموعة للنقاش، والأسقف تيخون، وهو شخصية مؤثرة في الكنيسة الأرثوذكسية الروسية ويشاع أنه أحد الذين “يعترف لهم” بوتين. ولقد عمل كلا الرجلين معا لدفع أجندة رجعية من حيث “القيم التقليدية”، بما في ذلك الموقف من قضايا الإجهاض والعسكرة وبيزنطة كنموذج تاريخي لروسيا، والتلقين الأيديولوجي للأجيال الشابة. وباالتالي أصبح مالوفيف شخصية محورية في تواصل روسيا مع دوائر اليمين المتطرف والأرستقراطية الأوروبية، فيما يركز تيخون على سد الفجوة بين الكنيسة والكرملين وضمان التقارب الأيديولوجي بينهما.

وينبغي أن يضاف إلى ذلك مفهوم “العالم الروسي” الذي تروج له الكنيسة بوضوح، في إشارة إلى مهمة إعادة توحيد “الأراضي الروسية” التي ستنتمي إليها أوكرانيا.

وهناك أيضا المزيد من الشخصيات الخفية المؤثرة: أحد أقرب أصدقاء بوتين، رجل الأعمال الكبير يوري كوفالتشوك المعروف بآرائه المحافظة والدينية حول عظمة روسيا، وهو واحد من أكثر الشخصيات الاقتصادية والإعلامية سرية في الدوائر الداخلية لبوتين، ولا يتمتع بأي وضع في مؤسسات الدولة بحسب الكاتبة.

وهو أكبر مساهم في أحد البنوك الروسية الرئيسية، ويسيطر على العديد من القنوات الإعلامية والصحف الرئيسية، يقال إنه المصرفي الشخصي لبوتين، قام ببناء القصور الرئيسية للرئيس، وقضى بوتين جزءا كبيرا من إغلاق كورونا معه، وفي ما يبدو فهو من غرس فيه فكرة أن التاريخ مهم أكثر من الحاضر، وأن بوتين بحاجة إلى التفكير في إرثه بتاريخ روسيا على المدى الطويل، بحسب الكاتبة لارويل.

لكن حتى لو تمكنا من تحديد الشخصيات التي لها تأثير عقائدي على بوتين فإن ذلك لن يوضح ما يدفعه إلى الحرب، لأن وجهات النظر الأيديولوجية للعالم تتشكل دائما من خلال سمات ثقافية أوسع من مجرد قراءات محددة.

وتختم الكاتبة لارويل بأنه تم بناء نظرة بوتين للعالم على مدى سنوات عديدة، وتشكلت من خلال استيائه الشخصي من الغرب أكثر من أي تأثير أيديولوجي، وكذلك عبر قراءة الأعمال الكلاسيكية للفلسفة الروسية التي تصر على صراع روسيا التاريخي مع الغرب، وتؤكد على دور أوكرانيا كحدود حضارية بين كليهما، وهو ما تعزز ببساطة من خلال تجربته الشخصية.


Related Posts


Post Author: SafirAlChamal