إستحقاق بعبدا الرئاسي.. سجال المكونات حول الخيارات والتوجهات… صبحي عبد الوهاب

تندرج إشكالية العلاقة بين “الديني” و”السياسي” بدورها في إطار السجال الدائر حولها في الحياة السياسية اللبنانية باعتبارها أحد أهم المسائل الشائكة معرفيا بفعل تأثرها بخلفيات إيديولوجية صريحة، وروزنامة سياسية ظاهرة، وبطبيعة السجال الذي يتمحور حول ماهية الدولة “الدينية” و”المدنية” في سياق المقاربة لمسألة “التقدم” و “التأخر” في الحياة الإنسانية والإجتماعية. 

ونرى أن “حزب الله” يؤمن إيماناً مطلقاً بأن مسؤوليته الدينية والأخلاقية تدفع بإستراتيجيته الوطنية الى الإرتكاز على الأعمال الصالحة عملاً بقوله تبارك وتعالى: “مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ” (القرأن الكريم.سورة النحل: الآية 97).  

وإنطلاقاً من هذا الإلتزام الإيماني العقدي فإن الهدف الأساسي على المدى الأعمق يستند على بناء علاقة متوازنة بين الدين والسياسة بما هما تعبيران عن إجتماع بشري تداخلت فيه، عبر مراحل التاريخ، العناصرالدينية والسياسية والإجتماعية والثقافية الى حد يصعب الفصل بين مستوياتها وقطاعاتها. وتنبثق عن هذه العلاقة المتوازنة بين “السياسي”و”الديني” في لبنان التي لا تكمن في الدين وليست كذلك في الطائفة أو المذهب بل تكمن في العقل السياسي نفسه الذي يتعامل في مجتمع متعدد ومتنوع وصغير كالمجتمع اللبناني وفي بقعة حساسة تقع وسط بركان إستراتيجي في هذه المنطقة من العالم.

 ويرى الدكتور وجيه كوثراني بدوره وهو مؤرخ وباحث وأكاديمي على صفحات “النهار” بتاريخ 7/8/1992 “أن أسلوب التعامل التوظيفي أو أسلوب الرفض المتجاهل للمواقع لا يؤديان عملياً إلا الى الغرق في سياسات فئوية صغيرة لا توحد وطناً ولا تبنيه ولا تحقق مصالح شعب ولا حتى مصالح جماهير طائفة بعينها”. 

ويلفت الدكتور سمير جعجع قائد القوات اللبنانية خلال حوار فكري سياسي ثقافي واسع في صحيفة النهار وعلى عددين متتالين 14 و 15 شباط / فبراير 1991 الى أن “المسيحية هي مشروع دائم قيد التنفيذ، لأن أحداً لم يقل أنها كما إنتشرت على يدي السيّد جرى تنفيذها، وألقت بظلالها على كل الناس. ولو نُفذت المسيحية كما يجب لكنا الآن موجودين في عالم مختلف. وهنا تطرح نفسها نقطة حساسة علينا معرفتها، المسيحية مشروع قيد التنفيذ، مشروع لم يكتمل تطبيقه على أساس أن المسيحية مشروع حل، وحين تُعتمد المسيحية كحل يتغير الواقع ويصبح الوضع مختلف تمام الإختلاف”.

وهذا ما يدفع تبعاً للواقعية السياسية أن “الدين” يلعب دوراً أساسياً في الحياة السّياسيّة اللّبنانيّة، وبشكل محوري في الحياة الدستورية والتشريعية لا سيما على مستوى تحديد المناصب العليا في الدولة اللبنانية لجهة حصرية مواقع كل من رئاسة الجمهورية والحكومة والمجلس النيابي وتوزيعها على الطوائف الثلاث الموارنة والسنة والشيعة وإقصاء الطوائف الأخرى عن المواقع القيادية المتقدمة وهي تلك التي نص عليها القرار رقم 60 LR الصادر في 13 آذار 1936 والتي بلغ تعدادها 17 طائفة تؤلف بمجموعها المجتمع اللبناني، حتى أن البعض من الدارسين والمتابعين يذهب الى وصف نظام الحكم بأنّه “خرج من رحم الدين والسّياسة”. 

ويفترض البروفسور الشيخ محمد شقير في مضمار الدين والسياسة: طبيعة العلاقة، على صقحات السفير بتاريخ 12 شباط/ فبراير 2004 وفي الصقحة 19 متسائلاً “أن لبنان بلداً يؤمن جميع أبنائه بالتعددية الدينية وبحق الآخر الديني في الوجود والمشاركة الفاعلة في بناء المجتمع وإدارة الدولة أي أن أبناء ذلك المجتمع التعددي يتمسكون بقيّم العيش المشترك الذي يقوم على أساس التعاون ووحدة الهدف والوظيفة في بناء الدولة العادلة لجميع أبنائها بمعزل عن إنتمائهم الديني. فما الذي يمكن أن يقدمه الدين لذلك المجتمع في بناء دولته وإدارتها؟.. 

إن الحديث هنا يرتبط بمشروعية المشاركة لا مشروعية الدولة بالمفهوم الديني ومساحة تلك المشاركة في المجتمع التعددي، وهنا يجب ألا يغلب في نظرة الديني الى الآخر الديني عوامل القلق والخوف وسوء الفهم لأن ما أراه أن المسلم الإسلامي هو أقرب الى المسيحية من المسلم العلماني كما يجب أن يكون المسيحي المتدين أقرب الى الإسلام من المسيحي المتعلمن، لأن هناك قواعد إيمانية مشتركة بينهما، يتفقون عليها ويؤمنون بها”. 

وما يريد الشيخ محمد شقير الأستاذ في الحوزة العلمية أن يقوله هو أن الأديان هي” نعمة للمجتمع التعددي إنها ثروة إنسانية سواء في جانبها القيمي والمعنوي أو في رصيدها المعرفي القانوني والحقوقي. لذا ينبغي العمل على إستحضار الدين بقيمه الإصلاحية في الدولة وأيضاً بتشريعاته الإنسانية لأن الدين هو للإنسان في حين أن الطائفية هي للقبيلة”. 

ويتولد لدى الشيخ شقير الحذر من توظيف الدين في الشأن السياسي لأن في هذه الحال تكون وظيفته التبرير لها ودون النظر في كونها موافقة للدين أم مخالفة له، بل وصل الأمر الى حد أن تكون أكثر من مؤسسة دينية تبعاً لزعامة دنيوية او سياسية، مما أساء الى الدين والسياسة، وأضر بهما معاً، لأنه حرم السياسة من قدرة القيم والأخلاق الدينية على هدي مساراتها، وتهذيب وظائفها، وأفقد الدين دوره في ترشيد فعلها، وجعلِ ذلك الفعل أقرب الى قيم التعاون على الخير والإصلاح وخدمة الإنسان.

ويلاحظ البروفسور الشيخ محمد شقير أيضاً في السنوات الأخيرة بروز العديد من المواقف والكتابات والمقالات من علماء دين وغيرهم، تحذر من التشيع ونشره والدعوة إليه في المجتمعات الإسلامية الأخرى التي تختلف مذهبياً عنه، حتى يظن القارىء أو المستمع أن هناك عملاً ممنهجاً يهدف إلى تشييع السنة وتحويل مذهبهم إلى المذهب الشيعي، في مسعى يؤدي إلى إيجاد ظاهرة من “الشيعة – فوبيا”، توازي ما عمل عليه الغرب لصناعة “ظاهرة الإسلاموفوبيا”، والتي كان يهدف من خلالها إلى تحقيق جملة من النتائج والمرامي على المستوى الاجتماعي والسياسي وغيره، فيتحدث وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كسينجر عن حرب المائة عام بين السنة والشيعة، على شاكلة الحروب الدينية التي حصلت في أوروبا بين الطوائف المسيحية على مدى مائة عام، فهل يشكل هذا الكلام جرس إنذار للعلماء والعقلاء من المسلمين عما يمكن أن يكون مبيّتاً لهم ويعمل عليه من أهداف لوصولهم إليها؟

ويعرف المطران جورج خضر على صفحات “جريدة النهار” في عددها الصادر يوم السبت الواقع فيه 28 أيـّار 2011 أن الذاكرة التاريخية شرسة، حادة ولكنها ذات علاقة ولو ضعيفة بالواقع. هنا ليس عندنا شيء من هذا. لقد بيّن أمين معلوف في كتابه عن الفتوحات الصليبية ان الذين قاموا بها كانوا متوحشين أكثر مما يتصوره عقل ولكن ما علاقتنا نحن المسيحيين الشرقيين بهؤلاء وكنا ساندنا المسلمين في تلك الحروب وذبحنا الفرنجة في القدس وقمعونا في انطاكية. ما لم يفصل المسلم في ذهنه المسيحي عن الغرب يبقى محملا المسيحي المشرقي أو العربي كل خطيئات الغرب منذ فجر المسيحية حتى اليوم ويبقى هذا المسيحي، بشدة او خفة، عميلاً للغرب أو حليفاً أو متواطئاً حتى قيام الساعة. والكل يعلم اننا إلتماساً لوحدتنا المجتمعية الكاملة مع المسلمين أوجدنا مفهوم العروبة. مرة سألني مثقف مسلم كبير: لماذا لا تبقون على أرض المسيحية ونحن على أرض الاسلام فنحمل مفهوما مشتركا ًوهو “العروبة”.

لذلك إذا إختلفت هذه مع شعوب إسلامية فليست المسيحية هي التي تختلف مع شعوب مسلمة. ويكون جاهلاً من إعتقد أن حكومات الغرب تناصر مسيحياً على مسلم في مناطقنا والأغلب انها تنصر المسلم في هذه البلاد بسبب من غناه. واذا كانت دعاوة الإسلاموفوبيا قد انتشرت في الغرب فلا تأثير لها على سياسة الدول لأن هذه الدول هي عاشقة للنفط ومشتقاته. ونصرة الغرب للأنظمة العربية القائمة او نصرتها للمحتجين او الثوار كلها جزء من المصلحة الغربية او جزء من العداء القائم بين روسيا والصين من جهة والدول الغربية من جهة أخرى. أين الصليبية في هذا؟.

ويأتي الجواب بطبيعة الحال واقعياً لينسجم مع سيادة المطران جورج خضر بإعتبار أن الصورة في المرحلة المعاصرة تختلف تمام الإختلاف عما كانت عليه في التاريخ السحيق حيث يشحذ الباحث محمد زعيتر في مؤلفه حول “المارونية في لبنان / قديماً وحديثاً” روح البحث التاريخي ليشير الى تحالف الموارنة مع البيزنطيين ومشاركتهم في الحركة الصليبية مما دفع الباحث سركيس أبو زيد ليحفر بدوره عميقا في التاريخ الموغل في القدم وليلفت الى أن هناك كثيرة هي الدراسات التي تتجنى على موقف المسيحيين فتتهمهم بأنهم كانوا حلفاء الصليبيين ضد شركائهم المسلمين، وعودة سريعة الى حقائق التاريخ تفضح هذه المزاعم. وعندما إقترب الصليبيون في القدس هرب من فيها من السريان اليعاقبة الى مصر. أما الذين بقوا في القدس فقد رزحوا تحت الإحتلال الصليبي مرغمين، وعندما حرر صلاح الدين الأيوبي القدس عام 1187 عامل مسيحيها العرب معاملة المواطنين لأنهم ظلوا “عرباً” وظل ولاؤهم القومي لأمتهم”. وكانوا في عوامل خذلان الصليبيين لمساعدتهم لصلاح الدين وهذا ما يذكره المؤرخين الأجنبي مكسيم موفرود والعربي محمد عمارة. لقد تحالف قسم من المسيحيين مع الصليبيين ضد أخوانهم في الدين، وقد واجه صلاح الدين حلفاً قوامه ريموند الثالث وإسماعيل بن نور الدين وبعض الفرق الاسلامية المخالفة مع الصليبيين.

كان ذلك العرض من مداخلة لأبي زيد إعتمد فيها منهج البحث التاريخي والنشوء الإجتماعي للظواهر بعيداً عن كل تفسير ديني وعلى صفحات الكاتب العربي الفصلية الصادرة عن الإتحاد العام للأدباء والكتاب العرب في عددها الثالث في تموز / يوليو 1982. 


Related Posts


Post Author: SafirAlChamal