دوافع ومحركات النزاع الإيديولوجي في الحرب الروسية الأوكرانية (10)… صبحي عبد الوهاب

إعتبر الباحث محمد علي فقيه من خلال قرأته لكتاب المفكر الأميركي زبيغيو بريجنسكي في “رقعة الشطرنج الكبرى” Grand Chessboard The الصادر عام 1997 ونقلته إلى العربية دار الأهلية في عمان عام 1999، أنه من أهم الكتب الإستراتيجية التي تساعد على فهم الأسباب التي دفعت روسيا بقيادة الرئيس بوتين على القيام بالعملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، إذ يعتقد بريجنسكي أن أوراسيا هي رقعة الشطرنج التي يستمر فيها الصراع من أجل الحصول على الزعامة العالمية، علماً أن هذا الصراع يتضمن الجغرافيا الاستراتيجية، أي الإدارة الاستراتيجية للمصالح الجيوبوليتية. فالهدف الرئيسي من هذا الكتاب هو صياغة جيو إستراتيجية أوراسية متكاملة وشاملة.

ويستحضر بريجنسكي في بداية كتابه مفهوم “قلب القارة” الذي يعتبره “نقطة الانطلاق الأساسية” للسيطرة على القارة. وينقل عن المحلل الجيوسياسي البريطاني هالفورد  ماكيندر قوله: “من يحكم أوروبا الشرقية يسيطر على قلب المنطقة، ومن يحكمها يحكم جزيرة العالم (أوراسيا) ومن يحكم جزيرة العالم يهيمن على العالم” لتصبح أوروبا الوسطى وخاصة أوكرانيا – وفقاً لهذه المعادلة التي تعود إلى قرن من الزمان- منطقة محورية.  ويشير بريجنسكي الى أهمية أوكرانيا الإستراتيجية عبر تصريح له في العام 1994، وبعد 4 سنوات من إنتهاء الحرب الباردة وتفكك الإتحاد السوفياتي، بأن أوكرانيا هي نقطة انطلاق وبناء الإمبراطورية الروسية، ومن ثم يجب أن تكون محور اهتمام وتركيز الإستراتيجية الأميركية، فهي دولة محورية جيوبوليتيكية لأن وجودها ذاته كدولة مستقلة يساعد على تحويل أو تغييـر موقف روسيا. وهكذا، فإن روسيا، من دون أوكرانيا لا تشكل إمبراطورية أوراسية”.

ويعتقد بريجنسكي بأن روسيا، من دون أوكرانيا، تستطيع أن تتابع السعي إلى أن تكون ذات وضع أو هيبة إمبراطورية، ويحتمل جداً أن تجر إلى نزاعات موهنة مع الدول الآسيوية الوسطى الصاعدة التي سوف تغتاظ، عندئـذ، مـن فقدان استقلالها الحديث، وتدعم أيضاً من قبل دول إسلامية شقيقة في الجنوب. ويرى المؤلف أن الصين ربما سوف تعارض بدورها أي استعادة للسيطرة الروسية على آسيا الوسطى فـي ضـوء اهتمامه المتزايد بالدول المستقلة حديثاً في هذه المنطقة.

ويعتبر بريجنسكي أيضاً أنه إذا استعادت موسكو السيطرة على أوكرانيا، بمواردها الكبيرة، ووجودها على البحر الأسود، فإن روسيا تستعيد عندئذ، وبشكل أوتوماتيكي ثرواتها لتصبح دولة إمبراطورية قوية، ممتدة عبر أوروبا وآسيا. وكذلك، فإن فقدان أوكرانيا لاستقلالها سوف يترك تأثيرات نووية على أوروبا الوسطى، محولاً بولندا إلى دولة محورية جيواستراتيجية على الحدود الشرقية لأوروبا الموحدة. كما يبيّن بريجنسكي أن فقدان أوكرانيا كان الأمر الأكثر إزعاجاً لروسيا. فظهور دولة أوكرانية مستقلة لم يكن تحدياً فقط لكل الروس بحيث يجعلهم يعيدون التفكير في طبيعة هويتهم السياسية والاتنية، ولكنه مثـل أيضاً انتكاسة جيوبوليتيكية للدولة الروسية. وإن رفض الاعتراف بأكثر من 300 عام من “التاريخ الإمبريالي الروسي” كان يعني خسارة اقتصاد زراعي وصناعي غني جداً وأكثر من 52 مليون إنسان ارتبطوا بعلاقة وثيقة بشكل كافٍ اتنياً ودينياً بالروس ليجعلوا من روسيا دولة إمبراطورية كبيرة وموثقة فعلاً. وهكذا، فإن استقلال أوكرانيا حرم روسيا أيضاً من وضعها المسيطر علـى البحر الأسود حيث كانت أوديسا ولا تزال باباً حيوياً لروسيا تتاجر من خلاله مع حوض البحر المتوسـط والعالم الذي يقع وراءه.

ويتابع بريجنسكي: إن خسارة روسيا لأوكرانيا بالغة الأهمية جيوبوليتيكياً، لأنها جعلت خيـارات روسـيا الجيواستراتيجية محدودة. وحتى من دون دول البلطيق وبولندا، فإن روسيا كانت ستظل تسعى، لو أبقت سيطرتها على أوكرانيا، إلى أن تكون قائدة لإمبراطورية أوراسية حاسمة، تستطيع فيها أن تحكم غير السلافيين في جنوب وجنوب شرق الاتحاد السوفياتي السابق. ولكن، من دون أوكرانيا وسكانها السلافيين ، فإن أي محاولة من قبل موسكو لإعادة بناء الإمبراطورية الأوراسية يحتمل أن تجعل روسيا متورطة وحدها في نزاعات طويلة الأمد مع غير السلافيين الذين أُوقظت فيهم النزعات القومية والدينية. والحرب مع الشيشان ربما كانت أول الأمثلة على ذلك.

ويضيف بريجنسكي وفقاً لرؤيته أنه إذا أخذنا في الحسبان تراجـع معدلات الولادة في روسيا، ومعدلات الولادة المتزايدة بشكل حاد بين سكان آسيا الوسطى، نجد أن أي كيان أوراسي جديد يعتمد على القوة أو الدولة الروسية وحدها، ومن دون أوكرانيا، سوف يصبح حتماً ذا طابع أوروبي أقل وذا طابع آسيوي اكثر مع كل سنة تمر. لا سيما أن بريجنسكي قد أكد عام 2009 بأن بوتين ومن يحيط به بدأ يظهر لديهم الحنين إلى الماضي ويحلمون بتشكيل اتحاد سوفياتي جديد مع بعض الدول.

وقد إعتبر الكرملين والدبلوماسيون وكبار الضباط الروس، أن دعوة بريجنسكي في كتابه”رقعة الشطرنج الكبرى”، لمنع روسيا من تحقيق مشروعها الأوراسي، دليلاً على أن الولايات المتحدة تريد عزل روسيا من خلال دمج أوكرانيا في كيان أوروبي وأطلسي. من هنا تبرز دعوة بريجنسكي إلى توسيع الناتو ليشمل أوكرانيا، التي تشكل حجر الزاوية في “رقعة الشطرنج الكبرى”. ويضيف: “عدم القدرة على توسيع الناتو رغم الجهود الأميركية يمكن أن يثير أكثر الرغبات الروسية طموحاً”.

أما آَخر  تغريدة لبريجنسكي كانت في 4 أيار/مايو 2017  قبيل وفاته كتب فيها أن القيادة الأميركية الرشيدة هي شرط لا غنى عنه لإستقرار النظام الدولي، وأميركا اليوم باعتراف هنري كيسنجر وفرنسيس فوكاياما تفتقد هذه القيادة الرشيدة والعالم يزداد فوضى. وإلا ما معنى انسحاب أميركا العسكري من العراق وأفغانستان وفشلها المتكرر ببسط سيطرتها على الشرق الأوسط؟. ولعل في هذا السياق أن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا محاولة استباقية لمنع أوكرانيا من الإنضمام إلى حلف الناتو وخروجها من دائرة تأثير موسكو، وبالتالي حرمان روسيا من المجال الأوراسي. لذلك نرى أن الدعم الأميركي والغربي لأوكرانيا هدفه ليس الدفاع عنها بقدر ما هي محاولة لإضعاف الإتحاد الروسي وتفكيكه.

ويخلص بريجنسكي بعد ذلك إلى أن أميركا تحتل مرتبة عليا في المجالات الحاسمة الأربعة للقوة العالميـة: الأول وهو المجال العسكري الذي تملك فيه قدرة وصول عالمية لا مثيل لها، فهي لا تسيطر على بحار ومحيطات العالم، والثاني المجـال الاقتـصادي،والثالث المجال التكنولوجي حيث تحافظ فيه على المجالات الحادة والحساسة في الابتكار، والرابع المجال الثقافي الذي تتمتع فيه، بالرغم من بعض السلبيات، بإغراء لا يمكن منافسته، وخاصة بين شبان العالم. وهكذا، فإن الجمع بين هذه المجالات الأربعة هو الذي يجعل من أميركا تلك القوة العظمى العالمية الوحيدة حصراً.

ويرى سعيد مهران الذي أعد تقريره لمجلة المجلة- مجلة العرب الدولية أهمية إستثنائية إذ يسمح بفهم بعض الأسباب التي دفعت بوتين إلى مهاجمة جاره الأوكراني، وقد كتبه بريجنسكي، أحد كبار المنظرين لإعادة تشكيل العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، مثل هنري كيسنجر وصموئيل هنتنغتون وفرنسيس فوكوياما.

وبالرغم من أن كتاب رقعة الشطرنج الكبرى لا يتضمن أية إشارة الى أي توجه “رسمي” ولم يشترك فيه أحد مع مؤلفه ولا علاقة له بالإدارة الأميركية، فإن كاتبه أي زبغنيو بريجنسكي المولود في بولندا عام 1928، قد هاجر بسبب الغزو السوفياتي لبلاده إلى الولايات المتحدة وهو صبي لم يتجاوز 11 ربيعا، وهناك أصبح أستاذا للعلوم السياسية بجامعة هارفارد، وارتبط بالحزب الديمقراطي، وقدم مفهوم القيم وحقوق الإنسان في عقيدة السياسة الخارجية الأميركية، وهو -كما يقول الكاتب- رجل ذو صوت مسموع في مناقشات العلاقات الدولية، ونظرا لتاريخه الشخصي ظل معاديا لموسكو.


Related Posts


Post Author: SafirAlChamal