دوافع ومحركات النزاع الإيديولوجي في الحرب الروسية الأوكرانية (8)… صبحي عبد الوهاب

تتربص أطروحة فوكوياما بالصين الحالية “التي لم يعد وضعها الراهن ملائماً للإصلاح ولا حتى لاتفاقات مستقبلية”. فمن زاوية التاريخ العالمي لم تعد الجمهورية الشعبية الصينية قادرة على لعب دور المنارة بالنسبة للقوى المناهضة لليبرالية في العالم، شأن فدائيي الأدغال الآسيوية أو طلاب الطبقات الوسطى في باريس. فالماوية لم تعد نموذج المستقبل بالنسبة لآسيا، وبالتالي أصبحت خارج التاريخ. في الواقع لقد تأثرت الصين القارية بشكل حاسم برفاهية ودينامية شقيقتها العدوة: ” فالسخرية التاريخية كانت تمنح تايوان هذا النصر الكبير”.

كانت الفكرة في حقيقتها نقلاً لمبدأ «حتمية التاريخ» من ميدانه الأصلي، أي من الفكر الماركسي، إلى الفكر الرأسمالي. فبعد تاريخ طويل من استخدام هذا المبدأ في الإيديولوجيات الماركسية التي تؤكد وجود مسار حتمي للتاريخ يؤدي آخر الأمر إلى الانتصار النهائي للطبقة العاملة، فانهارت تلك الإيديولوجيات في لمح البصر، وأصبحت فكرة «حتمية التاريخ» ملقاة على قارعة الطريق، بلا صاحب فتلقفها ذلك الأميركي الياباني الماكر، وزرعها في أرض المعسكر المضاد، وتقدم إلى العالم بحتمية جديدة للتاريخ، هي “حتمية سيادة الإيديولوجية الليبيرالية الرأسمالية بلا منافس طوال المستقبل المنظور للبشرية”. وبات من المؤكد أن العالم يتجه بلا هوادة نحو الحداثة الليبيرالية ولكن الذين يطرحون “مقولة نهاية التاريخ” لا يعلمون إطلاقاً أن العالم ليس كما تريده تلك المقولة وأن أطروحة صدام الحضارات لا تعني إلا إعلان حالة الحرب في العلاقات الدولية. لكن مع اشتداد وطأة الحرب الأوكرانية بدا أن أفكار فوكوياما تتعرض للنقد وحتى السخرية، فقد نقلت ميغان غيبسون المديرة التنفيذية لمجلة “نيو ستيتسمان” (The New Statesman) البريطانية عن المنظّر السياسي الأميركي اعترافه بإمكانية أن تواجه نظريته حول “نهاية التاريخ” نهايتها؛ نتيجة لتأثيرات حرب أوكرانيا على مستقبل الديمقراطية الليبرالية.

وتقول غيبسون أيضاً ” إنه وفي الأسابيع التي تلت غزو روسيا لأوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022، ردد النقاد المبتهجون على فوكوياما أن أطروحته التي تحدد مسيرته المهنية حول كون الديمقراطية الليبرالية هي “الشكل الأخير للحكومة البشرية” قد عفا عليها الزمن.” ونقلت عن فوكوياما انزعاجه نسبيا من السخرية من أطروحته، موضحا أنه يتبع سياسة عدم قراءة التعليقات وعدم الرد عليها.

ويعترف فوكوياما -وفق مقابلة أجرتها- غيبسون معه بأحد فنادق لندن أواخر مارس/آذار 2022 أنه معتاد على الانتقاد، الذي ظل ثابتا منذ نشر كتابه التاريخي، “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”، قبل 3 عقود.

وتوضح غيبسون بحسب “ترجمة الجزيرة نت” أن الرجل حدد نظريته في مقال نُشر عام 1989، إذ تقول فرضيته الشهيرة إن الديمقراطية الليبرالية أفضل إلى حد كبير من أي شكل آخر من أشكال الحكم، والأهم من ذلك، أنه لا يمكن لأي ديمقراطية ليبرالية أن تتطور إلى بديل أفضل. وهو سريع في الإشارة إلى أن معظم الناس الذين يدعون أن نظريته غير صحيحة قد أساؤوا تفسير الفرضية الأصلية، مضيفة أنه لم يتصور أن نهاية التاريخ ستكون دولة طوباوية أو توقع أن “العالم كله سيكون ديمقراطيا” مع “حركة خطية مباشرة في هذا الاتجاه”، كما أنه لم يشر إلى أنه “لن يحدث شيء من الآن فصاعدا”. في الواقع، أكد فوكوياما منذ فترة طويلة أن الأحداث ستستمر، وأن التاريخ لن يتوقف. وتضيف، أنه مع ذلك، فإن فوكوياما على استعداد للاعتراف بالأخطاء، إذ قال إنه عندما كتب أطروحته ربما لم يقدّر تماما مفهوم “الانحلال السياسي؛ فكرة أنه بمجرد أن تصبح ديمقراطية حديثة، يمكنك أيضا الرجوع إلى الوراء”. إنه موضوع يكافح فوكوياما لإنجازه في كتابه الأخير، ويتضمن أيضا الليبرالية وما تثيره من سخط أحيانا.

ويستكشف فوكوياما في كتابه “النظام السياسي والانحطاط السياسي: من الثورة الصناعية إلى عولمة الديمقراطية” الطرق التي عمل بها كل من اليسار واليمين لتقويض الليبرالية (اليمين من خلال تبني مبادئ السوق الحرة، التي وسعت عدم المساواة الاقتصادية؛ واليسار بإعطاء الأولوية لسياسات الهوية على الاستقلال الفردي). ورغم أن الكتاب قد كُتب قبل حرب روسيا على أوكرانيا، فإن الحرب لا تبطل حججه. بدلا من ذلك، يشرح كيف أن الكفاح من أجل الحفاظ على الليبرالية يدور حول ما هو أكثر من مجرد معركة بين الأنظمة الاستبدادية والديمقراطيات.

هذا شيء لاحظه فوكوياما -بكونه أميركيا- عن كثب في السنوات الأخيرة. لقد راقب بقلق الانقسامات العميقة بين اليمين واليسار طوال فترة رئاسة الرئيس السابق دونالد ترامب وفي أعقابها. وقال عن الاستقطاب السياسي الحالي في الولايات المتحدة “لم أرَ الوضع خطيرا بهذا المستوى، حقا، منذ الحرب الأهلية الأميركية. هناك فرصة كبيرة أننا سنواجه أزمة دستورية كبيرة وقت الانتخابات الرئاسية المقبلة”.

وعلى الرغم من أنه شدد على أن من المرجح أن يتغير الكثير قبل انتخابات 2024، إلا أن فوكوياما يكافح لتخيل كيف يمكن لترامب الفوز بالبيت الأبيض مرة أخرى بعد غزو بوتين، قائلا، إن ترامب خارج عن خط الأغلبية في حزبه، في إعجابه العلني بالزعيم الروسي، لا أرى كيف لن يؤذيه ذلك”.

كان فوكوياما أيضا على استعداد، على حد تعبيره في مقال آخر نشر له مؤخرا، للمخاطرة بشأن العواقب الجيوسياسية المحتملة للحرب في أوكرانيا، ليتوقع أن تخسر روسيا الحرب، ربما بشكل مذهل، وهذه الهزيمة ستساعد الغرب على الخروج من “ذعرنا بشأن حالة تدهور الديمقراطية العالمية. ستستمر روح عام 1989 بفضل مجموعة من الأوكرانيين الشجعان”، على حد وصفه. وتصف غيبسون ذلك قائلة إنها بالنسبة للمهتمين باستقرار النظام الدولي، فهي رؤية متفائلة، بل مطمئنة، للنتيجة المحتملة للحرب.

وتقول أيضا إن فوكوياما يعرف أوكرانيا جيدا، حيث زار البلاد عدة مرات كجزء من برنامج يديره من خلال جامعة ستانفورد، حيث يعمل بصفته كبير الباحثين في معهد فريمان سبوغلي للدراسات الدولية ويطور التدريب على القيادة في مختلف الديمقراطيات الناشئة.


Related Posts


Post Author: SafirAlChamal