دوافع ومحركات النزاع الإيديولوجي في الحرب الروسية الأوكرانية (5)… صبحي عبد الوهاب

تلازم خطاب بايدن في بولندا مع الأطروحة الفلسفية الأكاديمية التي قدمها فرنسيس فوكوياما، المفكر الأميركي من أصل ياباني والعضو البارز سابقاً في مؤسسة «راند كوربوريشن» للبحوث Rand Corporation القريبة من وزارة الدفاع والخبير الإستراتيجي الذي شغل منصب نائب رئيس قسم التخطيط المرتبط بوزارة الخارجية والأستاذ المحاضر في مركز Olin Center التابع لجامعة شيكاغو على إمتداد ثلاثين صفحة من مجلة «المصلحة القومية» الأميركية National Interest في صيف 1989 وقبل أن تصبح كتاباً بعنوان «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» والتي تستقطب إهتمام الرأي العام في إطار النقاش العالمي الدائر حول نهاية القرن العشرين وتحولات التاريخ السياسية الهائلة، والفرضية القائلة بأن تطور التاريخ قد وصل إلى قمته بانتصار الرأسمالية المتجددة على الشيوعية المنهارة وأنه لا توجد الآن نظرية تنافس الديموقراطية الليبيرالية الغربية كشكل نهائي للسلطة على البشرية جمعاء. وتوجد أسباب قوية تدفع للإعتقاد أن هذا النموذج هو الذي سيحكم العالم الواقعي لفترة طويلة بفعل إنتصاره في صراع الأفكار والنظم «فوصل القطار إلى هدفه» وإنتهى التاريخ بالمعنى الفلسفي الهيغلي بسقوط وإضمحلال وإختفاء الأنظمة الشيوعية الكلانية عن مسرح الأحداث وظهور توجه عام نحو قيم ديموقراطية ليبرالية.

ويرى فوكوياما في بقاء النظام الغربي الرأسمالي الذي يقوم على الديموقراطية والعلم ملامح مستقبلية ثابتة تجعل الغرب قوياً من الناحية الإقتصادية ويصبح نجاحه الحالي نجاحاً نهائياً. ولما كان الغرب قد وصل إلى أهم المبادئ الإنسانية العامة في الثورة الفرنسية ومنها الحرية والعدالة والإخاء والمساواة فإنه سيبقى معقلاً لهذه الأفكار لأن لا أحد اليوم قد تقدم بفكرة مقنعة بديلة للديموقراطية الليبيرالية وهذا ما يدعو إلى إعتبار أن التأريخ قد توقف عند الثورة الفرنسية وأن الشعوب بأكملها تسير على الخط ذاته، وأن الغرب قد تحرر من علاقة السيد والعبد فوصل إلى حالة تصافٍ وسلام مع نفسه، غير أن شعوباً ودولاً أخرى ما تزال متورطة في نزاعات التاريخ، وهي ستتحرر من ذلك لتلتحق بالغرب وتشاركه فيما وصل إليه. فغاية التاريخ إذن الوصول إلى حالة سلام كتلك التي ينعم بها الغرب الديموقراطي، غايته بكلمة أخرى، هي الديموقراطية.

وترتكز أطروحة فوكوياما على أسس فكرية تجد مداميكها في فلسفة فردريك هيجل (1770- 1831) ومبادئ الثورة الفرنسية 1789 حيث نلمس مقدار انبهاره بشخصية الفيلسوف الألماني السياسية من خلال حكمه على نابليون بونابرت (1769- 1821) إذ رآه في فيينا بعد استيلائه عليها في أكتوبر 1806 بنفس عالية ممتطياً جواده عبر المدينة للتعرف عليها «إنه لفي الواقع إحساس رائع ذلك الذي يغمر المرء حين يرى مثل هذا الفرد مركزاً في نقطة، جالساً على جواد، وإذ به يشم العالم إليه ويحكمه» وتحت ضغط أقدام جنده، وحوافر خيله، بدت له المانيا تتحرك، تتوحد «ولأول مرة، شعر بوحدة التاريخ والعقل في أقصى درجاته وحالاته، مبرراً، وهو في نشوته هذه، كل صلف وعنف نابليون تجاه بلاده. لقد كان يجد في اجتياح نابليون لبلاده قوة أو أداة مباشرة لتوحيد المانيا ووحدتها. ولم يكن هيغل خائناً لوطنه، بل حريصاً أكثر من الآخرين عليه، ولكن «رؤيته له وهو ضعيف، مفكك الأوصال، في أدنى درجات الشقاء العقلي، بينما هناك دول أخرى قوية (فرنسا، انكلترا…إلخ) دفعته إلى البحث عن مخرج لذلك، عن منقذ له، يحرره من سلطان الوعي الشقي، ويدخله التاريخ الكلي. ورأى في دخول نابليون بلاده تطابق العقل مع التاريخ، سمو الروح المطلقة، وقد تجسدت عملياً. فالحروب النابلويونية كانت حروباً عالمية وما يدهش حقاً من خلال النص الهيغلي أنه عندما كتب هيغل في إحدى رسائله عن نابليون قائلاً: ” رأيت روح العالم يمر راكباً حصانه، فإن كلمة عالم تدل هنا على البعد الكوني. لقد أراد هيغل أن يحيط بمجمل الموضوع طامحاً لالتقاط شمولية الشخص الذي كان يعيش في زمن أصبحت الكرة الأرضية فيه معروفة بكاملها”.

ويوظف فوكوياما الجدل الهيغلي ليحدد نهاية التاريخ بانتصار الليبيرالية الأميركية في تصفية أسس النظام الدولي السابق وتوجهها لتوطيد أسس متينة لإرساء قواعد متماسكة لنظام دولي جديد، ويعتمد بذلك على منطق تاريخي يقول بأن الديموقراطية أصبحت قدر البشرية في صيغتها المجددة كبديل أكثر واقعية لمستقبل البشرية. ويتساءل فوكوياما: «ما هو رهان شعوب العالم أجمع من أسبانيا إلى الأرجنتين، إلى هنغاريا، إلى بولونيا، عندما يسقطون الدكتاتوريات ويقيمون ديموقراطية ليبيرالية؟ فيأتي الجواب على هذا السؤال بطابع سلبي محض يستند إلى أخطاء ومظالم النظام السياسي المنهار: فالناس يريدون التخلص من قادتهم العسكريين المكروهين أو قادة الأحزاب الذين إضطهدوهم، أو أنهم يريدون العيش متحررين من الخوف من الإعتقال الكيفي. فالذين عاشوا في أوروبا الشرقية أو الإتحاد السوفياتي سابقاً يعتقدون أو يألمون بأنهم سوف يكسبون الإزدهار الراسمالي، لأن الرأسمالية والديموقراطية ترتبطان بشكل وثيق في أذهان الكثيرين من الناس. ولكن من الممكن الحصول على الإزدهار بلا حرية كما هو الحال في كوريا الجنوبية أو تايوان أو في اسبانيا سابقاً، فإن هذه البلدان حققت الإزدهار في ظل أنظمة أوتوقراطية ومع ذلك لم يكن الإزدهار ليكفي في هذه البلدان. إن كل محاولة لتعريف الاندفاع البشري الأساسي الذي أدى إلى الثورات الليبيرالية في نهاية القرن العشرين، على أنه إندفاع إقتصادي محض، هو في الحقيقة محاولة مجتزأة، كذلك الأمر بالنسبة ” للثورتين الأميركية والفرنسية وللثورات التي جرت على نمطهما منذ القرن الثامن عشر” فالرغبة بالحرية والديموقراطية كانت ولا تزال ” المنبع العميق للثورات المناهضة للشيوعية في الشرق منذ بداية الثمانينات، صحيح أن الدافع للإصلاحات التي جرت في الإتحاد السوفياتي وفي الصين حينذاك كان دافعاً إقتصادياً، فهو يكمن في عدم قدرة الإقتصاديات المدارة مركزياً أن تجيب على متطلبات المجتمع الصناعي المتقدم، ومع ذلك حتى لو قبلنا هذا التفسير الطويل الأمد لإنهيار الشيوعية، فإننا لن نستطيع فهم مجمل الظاهرة الثورية دون أن نعي مطلب الإعتراف الذي رافق الأزمة الإقتصادية. فالناس لم ينزلوا إلى شوارع لايبزيغ وبراغ وتيمشيوارا وبكين وموسكو ليطلبوا من حكوماتهم أن تعطيهم «إقتصاداً صناعياً متقدماً»، إن غضبهم الشديد ولد من المظالم التي شعروا بها وهي لا علاقة لها بالإقتصاد: مثل سجن أو اغتيال كاهن، الكشف عن فساد المسؤولين المحليين، استشهاد متظاهر في مواجهة قوى الأمن التي سارعت لاطلاق النار، منع إحدى الصحف، ورفض الرسميين قبول لائحة بالمطالب… لم يكن الناس يطلبون من حكوماتهم إقتصاداً للسوق بقدر ما كانوا يطلبون الإعتراف بحقوقهم الأولية في ظل سلطة القانون، يطلبون حكومة لا تكذب عليهم حول الجرائم والحماقات التي اقترفت في الماضي، وتسمح لهم بالتعبير بحرية عن آرائهم حول الصحيح والخاطئ، حكومة تعاملهم أخيراً ليس كأطفال وإنما كراشدين قادرين أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم فهم يملكون الإعتزاز ويؤمنون بكرامتهم الذاتية ويطلبون بإلحاح أن يجري الإعتراف بهذه الكرامة خاصة من قبل حكومة البلد حيث يعيشون، فهم لا يريدون أن يعاملوا كأطفال غير قادرين على السيطرة على حياتهم. وبالرغم من أن الولايات المتحدة خاصة والغرب عامة هو المنتصر فهناك نقص في الثقة ومزيد من الشعور بالانزعاج، إن التشاؤمية هي حقاً الغالب على الفكر الأميركي في القرن العشرين «وأعتقد أننا في هذا مضللون. قبل أكثر من خمس عشرة سنة فقط كان كيسنجر يقول، في موضوع الشيوعية: «إن الفكر لن يضمحل، إن الواقع الشيوعي لا نهاية له» ولكن الخط البياني لصعود الأنظمة الليبيرالية يؤكد بأنه في عام 1790 أي قبل مئتي سنة لم يكن في العالم سوى ثلاثة أنظمة ليبيرالية وبدءاً من العام 1990، 61 نظاماً.، من هنا أهمية مقولة في «نهاية التاريخ» التي يعاود الرئيس الأميركي بايدن القذف بها مجدداً الى واجهة الأحداث التي تشهدها أوكرانيا في المرحلة الراهنة.


Related Posts


Post Author: SafirAlChamal