دوافع ومحركات النزاع الإيديولوجي في الحرب الروسية الأوكرانية (6)… صبحي عبد الوهاب

يبدي فوكوياما إعجابه كثيراً عندما يسمع النخبة الغربية تتحدث عن الديموقراطية وكأنها شيء غير قليل الأهمية «في حين أن هذا الأمر هو روح العصر اليوم» و«لننظر إلى الروس فنرى أنهم تأخروا عنا خمسين سنة، لكنهم في الخمسين السنة المقبلة سوف يكونون مثلنا. إن المسألة هي مسألة وقت فقط».

ويذهب الدكتور سمير أمين كمدافع عنيد عن الفكر الإشتراكي إلى القول: «إن الرأسمالية نظام إجتماعي يختلف عن جميع النظم السابقة عليه من حيث الكيف، وهو قد بدأ منذ خمسة قرون، ولا أعلم كم من القرون أمامه للبقاء.وأصبح عالمياً شئنا أم أبينا أي أنه نظام يسود عالمياً الآن ليس فقط كنظام إقتصادي ولكن أيضاً كنظام سياسي وثقافي رغم تواجد تعدد في الثقافات، إلا إن المضمون المهيمن في المجال الثقافي عالمياً هو الرأسمالية. وعلينا أن ننظر إلى أن هذا النظام له جوانب سلبية، ولكن له أيضاً جوانب إيجابية، فهو نظام أنتج فعلاً، ولأول مرة في تاريخ الإنسانية، قدرة إنتاجية ونمو في الإنتاج المادي بمعدلات لا سابق لها. ولهذه القفزة النوعية في قدرة النظام الرأسمالي على التجدد المستمر أسباب منها ما يتعلق قطعاً بالمضمون الثقافي المتماشي مع هذا النمط الجديد للإنتاج، وهذا المضمون ليس غريباً، ولو أن الرأسمالية نشأت في الغرب، فالمضمون الرئيسي هو في الواقع مرتبط بالطابع الرأسمالي للنظام. ولكن في الوقت نفسه له حدود تاريخية وليس نظام قائم للأبد، ولا أعتقد أن الكلام حول نهاية التاريخ وعن أن الرأسمالية تجدد نفسها إلى الأبد له أي قوة أو مضمون علمي”.

ويعود الدكتور أمين الماركسي جداً ليؤكد في تعارضه مع أطروحة فوكوياما حول الفشل التاريخي للنظم الإجتماعية – الإقتصادية والسياسية، والإيديولوجية التي شيدتها الأحزاب الشيوعية في السلطة بأن «ما إنهار في الأعوام الماضية، هو نوع من الرأسمالية، ولم تكن للنظام السوفياتي علاقة بالإشتراكية. الإتحاد السوفياتي أنتج بورجوازيته التي طمعت مثل كل البورجوازيات إلى الإغتناء بحيازته لوسائل الإنتاج. الإشتراكية ماتت منذ عام 1930، ويجب التذكير بما قاله ماو تسي تونغ في عام 1963 لكادرات الحزب الشيوعي الصيني «لقد بنيتم بورجوازية كما في الإتحاد السوفياتي لا تنسوا أن البرجوازية لا تريد الإشتراكية، إنها تريد الرأسمالية، و يلاحظ المرء الخوف الشديد في بلدان أوروبا الشرقية، وهشاشة كبيرة للديموقراطيات، والنموذج الذي لدى يلتسين هو تشيلي بينوتشيت أو كوريا الجنوبية، ويخشى أن تكون الأنظمة الحالية إنتقالاً من الدكتاتوريات إلى الأوتوقراطيات الأخرى».

ويثبت المهاجر الروسي الكسندر كوجيف المشدود الى الفكر الفلسفي الهيغلي أن انتصار مجموعة الدول الأوروبية الساحق في الحرب العالمية الثانية هو عودة إلى الانتصار النابليوني معمماً هذه المرة حيث برزت الدولة العالمية في نظرة أكثر انسجاماً في سياقها الرأسمالي، وتجسيداً عملياً للروح المطلقة، وإعتبر أن كل أشكال الفعل السالب من أشكال الحروب، والثورات الدموية ستزول. كان كوجيف يؤمن إيماناً مطلقاً بجبروت أوروبا المقدس، بطغيانها المبجل لديه. وكان يرى فيها أيضاً التجسيد الأمثل لفكرة هيغل عن «نهاية التاريخ» هذه النهاية التي تجعل من أوروبا «جنة العالم» وعقله الكلي. وكان يرى في العالم الآخر، خارج حدودها، اقل ما يمكن الإشارة إليه، كونه الجزء الذي يجد معناه في الكل، وهذا «الكل» هو أوروبا، ومركزه أوروبا، كل العقل والروح والتاريخ في تماميته»، ويأتي الربط مؤخراً بين فلسفة نهاية التاريخ «التي صاغها بأسلوب جديد فرنسيس فوكوياما ووضع الولايات المتحدة الأميركية عالمياً ودورها في تدشين نظام دولي جديد يتناسب وسياستها مع من حولها من دول العالم وشعوبه وإمكاناتها المادية والمعنوية ومحاولتها راهناً أن تكون «التجسيد الأمثل لفكرة نهاية التاريخ الهيغلية ليحصل منها نموذجاً للدولة العالمية المنسجمة».

والإيديولوجية القريبة أو الموازية للأولى هي: «تسارع التاريخ» التي طرحها أكاديميون فرنسيون متخصصون في علوم سياسية وإجتماعية وقانونية والتي تشكل تباعداً قليلاً أو كثيراً عن مركزية الأدلجة الهيغلية التي مارسها فوكوياما على الضفة الأخرى من الأطلسي. وتهدف هذه الأطروحة الفرنسية في الأساس إلى وضع حد لمشروع إيديولوجيا تقرر «انغلاق التاريخ عند اللحظة الأميركية» لأن الفكر «لم ينته عند هيغل ” النظام الجديد” هو التعويض عن “ليبرالية جديدة” منفلتة من كل عقال، تكشف عن خواء تنظيري وفراغ إيديولوجي ناجم عن إنهيار عادات التأويل والترميز التي درج عليها التأمل الفلسفي وإنعكاساته في عصر الاستقطاب المنصرم. إن تسارع التاريخ أشبه بالزوبعة، بالعاصفة في الزمن، بالطائر النذير الذي يعلن نهاية عصر وهو يغير على المجتمع الدولي المنذهل، على أوروبا المكبلة، وعلى أسياد العالم الواقعين في شرك المستقبل. وتحذر إيديولوجية تسارع التاريخ من النجاح الكبير للفكر الهيغلي في المجال الفكري وفي المجال الإجتماعي بعد قرن ونصف القرن من شيوعه وتوجب «الاحتراز من تبنيها كحقائق أو بديهيات ليس باللجوء إلى الشك المنهجي من النوع الديكارتي الذي لا يفرض نفسه أبداً بسبب كونه غير متناسب مع الموضوع المعني، وإنما من قبيل الإحتياط من أجل التصرف إقبالاً على إستعمالها من قبل المعاصرين الذين يشهدون إضطرابات كبرى ومتقاربة في الزمن تؤثر في الحياة الجماعية للناس والشعوب. هذه الأحداث ليست سوى نتيجة نهائية وبارزة لتقلبات مفاجئة لا يمكن لأحد أن يقول ما إذا كانت تخضع لتدرج أسطوري ثابت، على أي حال فإن معاصري نهاية الامبراطورية الرومانية أو الثورة الفرنسية كانوا قادرين على الإحساس بمثل هذا الانطباع».

وختمت صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عرضها النقدي لاطروحة فوكوياما قائلة: «إذا أردنا أن نكون خبثاء فإننا نلاحظ أن فوكوياما هو هيغل ناقص الديالكتيك وزائد ملاحظات وزارة الخارجية الأميركية».


Related Posts


Post Author: SafirAlChamal