دوافع ومحركات النزاع الإيديولوجي في الحرب الروسية الأوكرانية (7)… صبحي عبد الوهاب

تميز الناقد الأدبي لجريدة «اللوموند» بدوره في شن الهجوم الأكثر عنفاً على فوكوياما وكتابه حيث وصفه بيتران بوارو ديلبيش كنشيد لإنتصار النموذج الأميركي وتنجيم خال من أي تواضع ومن أي حسبان للحدود والخطأ. ويرى ديلبيش خصوصاً في كتاب «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» دعوة للفقراء لكي يعودوا إلى بيوتهم ودعوة للغرب كي يرقص على «جثة ادعاءات العدوان الذي يرمي التأكيد على «نهاية التاريخ» إلى «تنفيذ مناورة تخويف تستثمر بشكل بشع أفكارنا ومخيلاتنا» إنها «عملية تشريط» تستهدف كما يقول وينقل ديلبيش عن الدوس هاكسلي في إحدى رواياته «جعل الناس يحبون المآل الأخير الذي لن يستطيعوا تجنبه».

وتقول الأطروحة الفرنسية المواجهة لأفكار فوكوياما «ومع ذلك يجب ألا نختلف عن موعد نهاية القرن عندما يكون كل شيء جاهزاً لكي ينفتح على عالم قد تغير. فمن جدران مهدمة إلى جدران مهدمة ومن سجون مفتوحة إلى سجون مفتوحة إنفتح الفضاء على العصر الجديد. وها نحن على عتبة الألف الثالث، وعلينا أن نعرف كيف نضيء مدخله بفكر قوي ومعطاء. فالفكرة الكبيرة وحدها هي على مستوى الأحداث الكبرى التي طبعت تلك السنوات الأخيرة ويإمكانها أن تنبت كل البذور التي تحويها في المستقبل. الفكرة الكبيرة وحدها تستطيع أن تطرد الكآبة التي يخشى أن يغرق فيها الأول، وحدها الفكرة الكبيرة تمنع التاريخ من أن يفقد معناه.

وأثارت مقالة فوكوياما ردود فعل متنوعة أيضاً داخل الولايات المتحدة الأميركية نفسها. وكان من أبرز الردود في حينه ما ذكره المعلق الأميركي ستروب تالبوت من أن فوكوياما «يمسك المنظار المكبر ويحدق في الأحداث الجارية على المسرح العالمي بالمقلوب» كما وإن محرر الأسبوعية الأميركية الليبيرالية «نيو ريبابلك» لفت النظر إلى أنه فاته أن يلاحظ أن الديموقراطية التي يعتبرها أسمى أشكال الإجتماع البشري قد فشلت فشلاً ذريعاً على صعيد حل التناقضات الإجتماعية الرئيسية كالفقر والتمييز العنصري».

وكان الرئيس الأميركي الراحل ريتشارد نيكسون (1969- 1974) الذي أطاح به الكونغرس الأميركي في خطوة استثنائية بسبب فضيحة «ووتر غيت» يكتب عن تجاهل أميركا لدورها العالمي قائلاً: «نحن على مفترق بالنسبة لدور أميركا العالمي، في الحرب الباردة لعبنا دوراً كبيراً، ولكنه دفاعي، في إحتواء الشيوعية، في السنوات التي تلت الحرب مباشرة، نفذنا إستراتيجية ذات حدين، كي نحد من إختراق موسكو لأوروبا. فقد إستخدمنا القوة العسكرية لردع العدوان، والقوة الإقتصادية من خلال مشروع «مارشال» لصد الخطر الشيوعي الإيديولوجي، ثم أجبرنا السوفيات، فيما بعد، على التراجع عن كوريا والفيليبين ونيكاراغوا والسلفادور وأنغولا، وأفغانستان وأمكنة أخرى. وهذا قد إستنفد منا وقتاً، وكل ما كنا نحتاجه هو الوقت، لكي نسمح لأفكار الشيوعية بأن تفشل، إذاعة أوروبا الحرة، والسياسات الغربية الأخرى ساهمت في تآكل الإيمان بالشيوعية، غير أن الخلل الأساسي في الإيديولوجية هو الذي حكم عليها بالفشل الأكيد. وعملنا يتابع نيكسون أننا في الحرب الباردة، على تجنب الشرور الكبرى، وكان امامنا المجال لنطرح الخيارات الكبرى، في الوقت الذي خسر فيه الشيوعيون، نحن لم نربح، ولن نربح، حتى نبرهن بأن أفكار الحرية يمكن أن تقدم لشعوب الإتحاد السوفياتي السابقة حياة أفضل، يجب علينا تطويع نفس الروح، التي ربحت المعركة الدفاعية ضد الشيوعية، كي نربح المعركة الهجومية، ونضمن انتصار الحرية، يجب أن نعبئ الغرب للالتزام بمليارات الدولارات المطلوبة لكي نعطي لاصلاحات روسيا الفرصة الكافية للنجاح. ويعيب روبرت رايخ أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفرد على فوكوياما تفاؤله الكبير وثقته بأن كل شيء يسير كما نأمل، هو الشيء السابق لأوانه، صحيح أن الحرب الباردة انتهت وأن الديموقراطيات الغربية هي التي انتصرت في هذه الحرب.. وهذه الانجازات ينبغي أن تدفع الغربيين إلى الابتهاج.. ومع ذلك فإن هنالك بعض المشاكل التي لا يمكن تجاهلها… فقد احتفلت الديموقراطيات الغربية بانتصارها بعد الحربين العالميتين الماضيتين، ومع ذلك فإن التاريخ لم ينته بانتهاء كل حرب منهما.

ويعتبر فوكوياما بأن المجتمعات الليبيرالية «تافهة ثقافياً» لكونها منشغلة بالأمور الإستهلاكية، وأن الأصوليتين الدينيتين والوطنية لا تزالان تستهويان العالم الثالث، وأنه من المستحيل على المرء الجزم بأنه لن يظهر على مسرح التاريخ العالمي نظام سياسي جديد، فإن الوقائع تؤكد على أن الديموقراطية الليبيرالية الغربية هي «أفضل شكل منصف للحكم إستطاع الإنسان إبتداعه».

وعندما سئل فوكوياما من «دير شبيغل» الألمانية عن إمكان التطلع إلى ما وراء الثقافة الغربية إلى تعددية ثقافية أخرى: «أجاب بالنفي طالما أنها تهدد المثال الأميركي المنسجم». ولم يعزل فوكوياما دور الدين في صياغة الأنموذج الأميركي المثال الذي يسعى إلى بلورته في الآفاق، إذ إن مؤسسي أميركا المهاجرين كانوا «متدينين شديدي الورع» وهذا بالنسبة إلى فوكوياما أحد العوامل التي حضت على أداء الواجب والمثالية الأسرية والحس الإجتماعي في أميركا. ويسعى أكثر من ذلك ليؤكد تخوفه من تراجع دور الدين في المجتمع الغربي لما له من دور في شد عضد المجتمع ولكن لا تقبل «الفوكويامية» الدين إلا إلى أن ينخرط في مسيرة الديموقراطية» ولكن التصعيد الكامن في هذه الإيديولوجية يتجه إلى تأكيد المواجهة التي كانت قائمة بين الرأسمالية والشيوعية التي استحالت إلى مواجهة بين الراسمالية والإسلام وذلك بفعل سقوط النظرية الشيوعية أمام واقع التطبيق، وإختفاء عنصر التوازن الدولي بين الشرق والغرب بإنهيار الإتحاد السوفياتي، وتفرد القوة الغربية على الساحة الدولية – على الأقل خلال الفترة الحالية والمستقبل القريب المنظور. وتنطوي هذه الإيديولوجية على إغراء يقول بأن هناك حاجة دائمة في الغرب لإيجاد «شيطان» أو «عدو» يجب مواجهته، وهذا الشعور يجلب رد فعل التحدي في الغرب ويكشف دورته الإقتصادية والسياسية .


Related Posts


Post Author: SafirAlChamal