الترسيم البحري… فصولٌ لم تكتمل… شفيق ملك

أيام مضت على مغادرة الرئيس ميشال عون قصر بعبدا، تاركاً وراءه إرثاً كبيراً مليئاً بالملفات المعقّدة، ملفات لا أول لها ولا آخر. ملفات لم ينظر إليها تركت دون حلّ. ملفات أجلّت إلى ظروف قادمة إقليمية ودولية.

ملفات تبحث لها عن كفيل أو ضامن يسعى إلى ورقة أو ثمن. هكذا أسدل الستار على عهد رئاسي عمره ست سنوات عجاف لم ير مثلها الشعب اللبناني بأسره خلال عقود من الزمن إن شاء الله طويت، من دون رجعة.

لا أريد أن أطلق أوصافاً على هذا العهد، لكن أشير فقط إلى الإفلاس وما ذكره حلفاؤه من الصف الواحد، وفصيل من فريق الممانعة، قد خاضا الانتخابات النيابية السابقة جنباً إلى جنب، أعلنها أخيراً في نهاية شهر تشرين الأول بإسقاطه العهد، ومودعاً له، على شاشته التلفزيونية اللبنانية، بمقدمة نشرة أخبار مسائية نارية.

أبرز جميع هذه الملفات أهمية ملف الترسيم جنوباً، ملف الترسيم البحري للحدود اللبنانية الإسرائيلية.

أبرم هذا الاتفاق غير المباشر بنجاح غير مسبوق، تحت مظلة دولية، وبرعاية المفاوض الأمريكي الذي قيل عنه الكثير، أكثرها تأثيراً خدمة آموس هوكشتاين، سابقاً في الجيش الإسرائيلي.

تمّ التوصّل لهذا الاتفاق بآلية جديدة متطورة بشروط مغايرة لما هو مألوف في تاريخ الاتفاقات الدولية السابقة.

لا شك أن الحرب الروسية الأوكرانية قد عجّلت أو أنها صنعت هذا الاتفاق، حسب القول المأثور “مصائب قوم عند قوم فوائد”. على لبنان أن يستفيد من هذا الإنجاز من عائدات النفط والغاز، شريطة أن تتم هذه العملية بشفافية من قبل المسؤولين، يصار لها صندوق خاص يعود ريعه إلى الشعب اللبناني، الجيل الحالي والمستقبلي.

أنجز هذا الملف بتكتّم شديد من قبل معظم الساسة اللبنانيين، علماً أن العدو سبقنا علانية في هذا المضمار على الأقل بثمانية أعوام من بناء كل ما يحتاجه من البنية التحتية، ولبنان غارق في طابور الانتظار.

يعدّ هذا الاتفاق غير المباشر إنجازا تاريخيا كبيرا يستحق التوقف عنده بحرص شديد.

بالأمس القريب فاجأنا زعيم حزب الليكود بنيامين نتنياهو أن توعّد بإلغاء هذا الاتفاق للإسرائيليين.

قد تكون هذه التصاريح السياسية فقاقيع هواء استغلها نتنياهو لأجل مكاسب انتخابية… ومن يدري؟

لا شك في أن هناك توافقا بين الدول الكبرى المعنية في ملف الغاز والبترول في منطقة الشرق الأوسط ، مع تقاطع لمصالح هذه الأطراف المعنية، أهمها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي من خلال فرنسا المأزومة لدرجة الاستنفار الأممي في الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، والتي وصلت إلى درجة الجنون.

في المقابل إيران اللاعب الاقليمي الأساسي في حروبه العبثية بالمنطقة وتدخله المتواصل بواسطة أذرعه في سوريا، العراق، اليمن ولبنان وغيرها من البلدان. إضافة إلى العقوبات الاقتصادية الأمريكية، بسبب ملفها النووي وكذلك توقف المحادثات حتى الجانبية منها.

تزامن دخول إيران في أسبوعها السابع للانتفاضة النسائية والشعبية في معظم الداخل الإيراني. 

دخول بعض دول الخليج مثل قطر في عملية الاستثمار في لبنان عامل اقتصادي إيجابي بعد خروج روسيا من هذا المجال، بسبب العقوبات الأمريكية.

بالرغم من الاختلاف الجوهري الذي نشأ خلال المفاوضات، ما بين خطيّ 23/29، فقد استطاع المفاوض الأمريكي بنجاح احتواء هذه المشكلة، وتمت التهدئة السياسية لها، بتماسك معظم الكتل السياسية اللبنانية بوحدة الصفّ والرؤى الواحدة.

أسبابها الرئيسية تعود إلى: 

أولا: تعطّش الشعب والدولة للخروج من الأزمة الاقتصادية الخانقة في لبنان.

ثانيا: القاسم المشترك لدى إسرائيل ولبنان سرّعا موعد الاتفاق، وانتظار إسرائيل لضخ ّ غاز كاريش الجاهز للضخّ منذ فترة.. هذا الغاز ليعوّض جزءاً من النقص الحاد للدول الأوروبية نتيجة الحرب الدائرة في أوروبا.

ثالثا: لبنان المحاصر منذ أكثر من عشر سنوات ومنعه في بدء الاستكشاف والتنقيب والاستفادة من ثرواته النفطية والغازية التجارية.

رابعا: تحمّس أمريكا لوقف النزاع في منطقة الشرق الأوسط، خصوصاً تهدئة الصراع بين إسرائيل ولبنان عند الحدود الجنوبية لسنوات طويلة الأمد القادمة. 

خامسا: حصول إسرائيل على اعتراف غير مباشر، وتخفيف فاتورة أمريكا السنوية لإسرائيل. 

حسمت إدارة الرئيس بايدن أن هذا الاتفاق هو أسرع وأقصر طريق لربط النزاع وبسط الأمن والاستقرار في المنطقة وقد تكون أيضاً ورقة رابحة بيد إيران. وكل هذا يحدث بخفاء.

المثير للجدل، لماذا تأخر فريق العهد الرئاسي بعدم إطلاق المرحلة الثانية، والثالثة من الترسيم البحري شمالاً؟ أي الترسيم مع الشقيقة سوريا، وقبرص الدولة الصديقة.

لماذا انتظر ساسة العهد كل هذه السنوات دون طرح لهذه المسألة، دون حراك سياسي متقدم لهاتين المرحلتين؟!

لكن العهد سعى لها في الأسبوع الأخير في بعبدا دون جدوى، مع زلّة قدم دبلوماسية في ملف الترسيم الشمالي.

لذا ترك ملف الترسيم البحري غير مكتمل، ووضع الملف برمته في ثلاجة العهد الراحل، لحين تمكّن المجلس النيابي من الالتئام والاتفاق لانتخاب رئيس للجمهورية مستقبلاً، ومن ثم تشكيل وزارة جديدة كاملة الأوصاف في ظل الرئيس العتيد.

إن عدم ترسيم الحدود البحرية الشمالية مع كل من سوريا وقبرص تعتبر غلطة تاريخية، استراتيجية واقتصادية. فالفترة الزمنية القادمة غير محددة وغير معلومة الأجل. وذلك لحصول شغور أو فراغ رئاسي يصاحبه استقالة الحكومة الحالية.

لينتظر الشعب. وليتمنى الشعب اللبناني على ساسته اختصار المهل الدستورية، وإنجاز الإصلاحات المطلوبة من قبل (IMF). فلتلتئم جميع الكتل النيابية في المجلس النيابي، وبسرعة، ولتنتخب رأس الدولة. ويصار بعدها إلى تشكيل وزارة تضم النخب الفعّالة من الشعب، ذوي الخبرة واليد النظيفة.

فالوضع اللبناني وصل إلى حالة حرجة تحتاج الى علاج سريع دون تأخير. إن أزمة لبنان الحقيقية في وجهها السياسي، الاقتصادي والاجتماعي يمكن أن نستشفّها بوضوح من خطاب دولة رئيس حكومة تصريف الأعمال في الجزائر بالأمس القريب والموجه لممثلي جامعة الدول العربية ال (22)، مستغيثاً … طلباً للمساعدة من هذه الدول المعنية الشقيقة.

استغاثة… لكن دون مجيب.!!!

عاش لبنان حراً سيداً مستقلاً.

الكاتب: المهندس شفيق ملك

المصدر: سفير الشمال 


Related Posts


Post Author: SafirAlChamal