حياد لبنان.. خيار استراتيجي بين نقيضين (24)… صبحي عبدالوهاب

تنشر ″سفير الشمال″ على حلقات كل يوم ثلاثاء دراسة حول طرح ″الحياد″ أعدها الباحث صبحي عبدالوهاب، وفيما يلي الحلقة رقم عشرين..

يتبلور النموذج السياسي لحزب الله اللبناني من خلال التوجهات الأساسية التي تتعدى الوقوف طويلاً أمام “أطروحة الحياد” وتذهب بعيدا عن ما هو قائم في المجتمع اللبناني من صيغة تعتمد التوازن الدقيق بين كافة مكوناته، وتعطي دلالة قاطعة على خصوصية مسيرة الحزب ضمن إطار الطائفة الشيعية أولاً حيث يبرز الإنقسام في الخيارات ما بين حركة “أمل” و”حزب الله” أي بين ما أصطلح على تسميته بـ”الثنائي الشيعي” في المرحلة الراهنة، فإنبرى منذ سنوات طوال الوزير الأسبق والأستاذ الجامعي المحاضر في علم الإجتماع الدكتور جورج قرم وفي مقابلة أجرتها معه مجلةCroissance des Jeunes Nations ونشرت ترجمتها الى العربية صحيفة ” السفير” اللبنانية يوم السبت الواقع فيه ١٥ تشرين الثاني / نوفمبر ١٩٨٦ وإستند فيها على قاعدة عامة، بأنه لا يوجد وحدة طائفية متينة داخل الطائفة. ولا أحد يريد أن يرى هذا الأمر في لبنان اليوم والجميع مذهول من “الظاهرة الشيعية” وأن ما هو جديد بالنسبة الى الطائفة الشيعية هو إنتقالها من حالة النضال التي كانت في السبعينيات من القرن الماضي علمانية أساسا، داخل الأحزاب القومية العربية أو الإشتراكية أو المتمركسة الى حالة النضال الديني ، وهذا الإنتقال الديني هو عامل مشجع لتطور نفوذ إيران الإسلامية وهو ما تم بإتفاق على ما يبدو سمح لها بممارسة التدخل المباشر في الشؤون اللبنانية وتنشر إيديولوجيتها من خلال تمركزها وسط الطائفة الشيعية اللبنانية.

ولن يتأخر سماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله عن تأكيده أنه جندي في ولاية الفقيه حيث أشار حينذاك “إذا أردتم أن أحلف يمين، أحلف يمين أن إيران لم تأمرنا بأمر، ولم تبلغنا بقرار، ولم تطلب منا أي طلب، لا في الشأن المحلي ولا في الشأن الإقليمي، أبداً. نحن قيادة مستقلة، نحن ندرس، نحن نقرر، نحن أحياناً نسترشد بآرائهم وبخبرتهم، ولكن لم يعطونا في يوم من الأيام قراراً: إفعل، لا تفعل، إقبل لا تقبل”. ولكن بعد أن بلغت قوة الحزب ذروتها داخل الساحة اللبنانية لم يعد سماحة السيد محتاجاً لإخفاء ما أعلنه مرةً أخرى وفي كل مرة ” أنا أفتخر أن أكون جندياً في حزب ولاية الفقيه، وولاية الفقيه تعني أن نأتي ونقول أن قيادتنا وإرادتنا وولاية أمرنا وقرار حربنا وقرار سلمنا هو بيد الولي الفقيه” دون أن يعني ذلك إنقياداً مطلقاً كما يصفه معارضوه بقدر ما هو إنتماء الى تراث وثيق للعلاقات الجيوسياسيّة والثقافيّة والدينيّة التي ربطت على سبيل المثال جبل عامل بإيران في مرحلتين متباعدتين، زمنيًّا، لكنّهما متّصلتان بعرى ووشائح وثيقة، تراخت في بعض المراحل، لكنّها لم تنقطع أبدًا وأدّت إلى تأثّر وتأثير متبادلين على مختلف الصعد كافّة. ففي الأولى ساهم علماء جبل عامل في المرحلة التّأسيسيّة للدولة الصفويّة وخصوصًا في البناء الفكريّ لهذه الدولة التي أعلنت التّشيّع مذهبًا رسميًّا لها، وكادت تتّجه إلى الغلوّ فيه، لو لم يلجم العلماء العامليّون اندفاع السّاسة الصفويّين، ويصحّحوا المسار الفكريّ للدولة بحماية المذهب الاثنيّ عشريّ من تحريفات الغلوّ الصوفيّ، الذي كان ممكن أن يمتدّ تأثيرهم من الدّين إلى السياسة والثقافة، أما في الثانية فقد قام العلماء الإيرانيّون قبيل نجاح الثّورة الإسلاميّة، وبعدها بدور مهمّ في تحريك الجمود المخيّم على الأفكار في جبل عامل. هذا الدور بدأ منذ ستينيّات القرن العشرين، ووصل إلى أوجّه بعد انتصار الثورة الإيرانيّة، وقد امتدّ هذا التأثير من الدين إلى السياسة، والثقافة أيضًا. ومهما يكن من أمر، فالمرحلة الأولى هي التي أسّست للمرحلة الثاني، وهذا ما تناوله الدكتور حسن بعلبكي في دراسته التاريخية التي نشرها على صفحات مجلة “أوراق ثقافية” في عددها الصادر في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 2019 تحت عنوان “إيديولوجية الرفض بين جبل عامل وإيران” وكشف فيها أيضاً البعد السياسي لنظرية ” النيابة العامّة للفقهاء” التي طورها علي بن عبد العال الكركي العامليّ وطبّقها عمليًّا في المرحلة الأولى، وظلت تتفاعل سلبًا وإيجابًا طيلة القرون التالية، وتتطوّر ببطء إلى أن وصلت على يد الإمام الخميني إلى “نظريّة ولاية الفقيه” التي على أساسها قامت الثّورة وقامت الجمهوريّة الإسلاميّة، ونجاح الثّورة كان الدّافع والمحفّز لنهوض المقاومة الإسلاميّة في لبنان. وقد انفرد الأصوليون بهذا النهج من دون غيرهم، كما حصل مع الميرزا الشّيرازي في ثورة التنباك في إيران، وقيادة الحركة الدستوريّة عند الأخوند الخراسانيّ، وحركة التأميم عند الكاشاني، ثم الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة عند الإمام الخميني. ومن نافل القول إنّ هذه المقاومة التي استمدّت الدّعم الفكريّ والسياسيّ من الثّورة الإسلاميّة الإيرانيّة التي كانت نقطة الضوء الوحيدة في هذه العتمة التي تخيّم على الأقطار العربيّة والإسلاميّة.

ولكن كيف يقرأ حزب الله المواقف الرافضة لخياراته من غير الوسط الشيعي ؟ وكيف ترتسم سياساته تجاه الأطراف الأخرى في ظل مناخات متشابكة وكثيرة العقد والتعقيد؟ هذا ما سيتم إستنتاجه في حلقة قادمة. 


مواضيع ذات صلة:


Post Author: SafirAlChamal