تنشر ″سفير الشمال″ على حلقات كل يوم ثلاثاء دراسة حول طرح ″الحياد″ أعدها الباحث صبحي عبدالوهاب، وفيما يلي الحلقة رقم 21
إستمر الدكتور محمد مجذوب بطرح تساؤلاته، إذا كان المنادون بالحياد يدركون (على الاقل في أعماقهم) صعوبة الوصول الى هذا النظام ، فلماذا يصرون من وقت الى آخر، على طرحه والدفاع عنه؟ أو ما هي الأغراض والدوافع الحقيقية الكامنة وراء دعوتهم؟ فيرى أن الأغراض كلها تنطلق من مصدر واحد، هو النزعة الإنعزالية القديمة المتجددة. وغالبية أصحاب النزعة أناس متحجرون بعيشون، فكراً ووجداناً، في عصر غير عصرنا. وهو يريدون عزل لبنان عن محيطه العربي، ومنعه بالتالي من التفاعل مع الحركة القومية العربية والإسهام الجدي في حل القضية الفلسطينية . وهم يسعون كذلك الى عزله عن قضايا الدول النامية والتيارات والتحركات الإنسانية في العالم، والحيلولة دون إسهامه في الإنتفاضات التحررية التي يحفل بها العالم، ودون تكتله مع الفئات الخيرة في مختلف الأقطار لتكوين قوة ضاغطة أو رادعة تقف في وجه العابثين بمستقبل البشرية.
وعندما إتسعت الحملة المنادية بالحياد ، طرح على رجال الفكر السؤالان التاليين: هل يؤدي حياد لبنان الى إنسحابه من جامعة الدول العربية؟ وهل يقود الى الإعتراف بإسرائيل والتعامل معها؟ فإنبرى الدكتور منوال يونس ليكون أشدهم صدقاً وذكاء، عندما طالب الدولة اللبنانية بان تتبنى حياداً إقليمياً، قانونياً، علنياً، متكافئاً، إزاء جميع الدول العربية فقط ، دون أن يؤدي ذلك الى إنسحابها من الجامعة.
ويبقى للدكتور مجذوب إبداء بعض الملاحظات الأولى منها أن الحياد اللبناني الذي ينشده البعض ليس غاية لخير الوطن، بل وسيلة لتحقيق حلم إنعزالي. وبما أن الداعين له يريدون بلوغه بأي شكل أو ثمن، فقد أهملوا في معرض شرحهم لمحاسنه، كل حديث عن مضمونه وأسسه وتطبيقه ونتائجه. والملاحظة الثانية هي أن معظم اللبنانيين يطمحون (وإن كانت سياسة حكوماتهم تخيب آمالهم في كثير من الأحيان) الى أن يتبع بلدهم سياسة حيادية إزاء المعسكرات والأحلاف، وإزاء الخصومات والعنعنات الشخصية التي تندلع، من حين الى آخر، بين الحكام العرب، وإلتزام الحياد هنا هو الحكمة بعينها. والملاحظة الثالثة هي أن حياد لبنان إزاء إسرائيل مستحيل. بل هو قومياً وضميرياً، خيانة. وساق المجذوب فقرة من أفكار هنري أبو خاطر في الصفحة 65 من كتابه “فلسطين والخطر المصيري” من منشورات عويدات في بيروت حيث أشار صراحة الى أن بعض الفئات في لبنان تنزع الى المطالبة بحياده سلماً وحرباً بضمانات توفرها الدول ويستقر معها البلد واحة طمأنينة في بقعة مضطربة من الشرق، علّه يباعد بين الخطر الصهيوني وبين نفسه. إن لبنان لا ينقذ لبنان في عرفنا ، على المدى الطويل من خطر التوسع الصهيوني على أرضه ومياهه، بل يفتح ثغرة في الجبهة الأمامية بمواجهة إسرائيل، تفك معها هذه الاخيرة قيود الحصار لتنفذ، خطوة خطوة، الى سوريا والاردن والعراق وما اليها والى وادي النيل، تصطنع الدويلات العرقية والدينية تبريرا لوجودها وتحقيقاً لنهم في السيطرة على مرافق الحياة في بقعة رحبة تمتد من النيل الى الفرات، وما وراءه. والملاحظة الرابعة والأخيرة هي أن نجاح مشروع الحياد في لبنان (الذي ينطوي حتماً على حياد تجاه إسرائيل والدول الإمبريالية المناصرة) قد يغري الأنظمة العربية الاخرى بالإقتداء بلبنان (حبا بالتقليد، أو رغبة في التملص من كل مسؤولية قومية) فماذا سيحل بالقضية الفلسطينية أن عُممّم الحياد؟ وكيف ستصبح علاقات العرب بالولايات المتحدة، الحامية لإسرائيل والضامنة لعنصريتها وأطماعها؟ لقد إنحازوا اليها دون حياد، فالتزمت هي الحياد تجاههم، وإنغمست في الإنحياز لإسرائيل. لقد أعطوها شيكا على بياض فأعطتهم شيكات بلا رصيد، فماذا ستعطيهم إذا إختاروا فعلاً نظام الحياد؟
ولم يتاخر حزب الله وحلفاؤه عن إيجاد الأجوبة التي تستند على التطويق العملي للحراك الذي أطلقه البطريرك الراعي لتحييد لبنان عن المحاور، والذي جاء في وقت تمكّن فيه حلفاء إيران من الإستيلاء على المناصب الرئيسية بالدولة، بما في ذلك الرئاسات الثلاث، مما وضع لبنان في مرمى حملة الضغوط الأميركية القصوى على طهران لا يمكن للحزب أن يواجهها إلا بموقف “الممانعة” التي تستند على نظريّة نشأت أساساً من خلال كتابات سجالية يمكن تلخيصها في مقاربات “الرباعيّ” إدوارد سعيد، جوزيف سماحة،عزمي بشارة وسهيل القش(أستاذ مشارك في الفلسفة بجامعة لافال ــ كندا، وباحث زائر بالمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة وأستاذ سابق في الجامعة اللبنانية)، الذي وضع كتابه “في البدء كانت الممانعة؛ مقدمة في تأريخ الفكر السياسي العربي” (دار الحداثة، 1980)، وهو عمل ضمَّنه مجموعة من المحاضرات ألقاها بين عامي 1978 و1979 وكان أوّل من سوّق للمفهوم في كتابه المذكور حيث إستجلب مصطلحي الممانعة والمغالبة من مقدّمة ابن خلدون، وخلاصته أن الممانعة الخلدونية هو ما تبديه العصبية للحؤول دون زوال خشونتها أي دون تحلّلها وتلاشيها من جراء افتتانها بشهوات المُلك وليونة الحَضَر. وعلى هذا المنوال جعل الممانعة الحديثة على أنّه ما يبديه إقليمنا الحضاريّ من ممانعة أمام كلّ افتتان بالتحديث والإستعمار المتمازجين، بل حاول تقديم المؤرّخ عبد الرحمن الجبرتي في أيّام الحملة الفرنسية على مصر بوصفه الأب الروحي للممانعة.
ولفتت مصادر متابعة الى أن «الحملة المنظمة عبر مواقع التواصل الاجتماعي (مجموعات تابعة لحزب الله) ضد مواقف الراعي تحت عنوان راعي العملاء متهمة إياه بترويج حياد لبنان عن الصراع العربي-الإسرائيلي». يرافقها طرح اسئلة في كيفية تعاطي بكركي مع المعطيات الجديدة القائمة في المرحلة الراهنة ؟ وهل سيتمكّن الراعي بالرغم من كل الحملات من صون طرحه، والمضي فيه قدماً حتى يؤتي ثماره مع استعداده الدائم لتسويق طرحه دولياً من بوابة حاضرة الفاتيكان؟ وامام خاصية الإصرار التي تمتاز بها مسيرة البطريرك الراعي الم يحذر حزب الله في وقت من الأوقات من مخاطر زيارة البطريرك بشارة الراعي التي جرت للقدس بين 24 و25 مايو/ أيار 2014 في إطار زيارة الحبر الأعظم البابا فرانسيس للأراضي المقدسة. وقال رئيس المجلس السياسي لحزب الله حينذاك ، ابراهيم أمين السيد، إن الوفد وضع الراعي في أجواء التداعيات السلبية لهذه الزيارة في حال قيامها ، في حين أكد الراعي وجود اعتبارات دينية تخص المسيحيين والقدس بعيدا عن التداعيات السياسية. وعدت الزيارة للقدس الأولى من نوعها منذ قيام دولة إسرائيل في عام 1948، إذ أن لبنان يعيش “حالة حرب” مع إسرائيل تمنعه من إقامة أي علاقات دبلوماسية معه. وكان إعلان الراعي نيته زيارة القدس قد لاقى الكثير من الإنتقادات والهجوم، إذ تم تصنيف هذه الزيارة في “خانة التطبيع” ترى كيف سيتم وصف اطروحة “الحياد” في المرحلة الراهنة؟
مواضيع ذات صلة: