حياد لبنان.. خيار استراتيجي بين نقيضين (10)… صبحي عبدالوهاب

تنشر ″سفير الشمال″ على حلقات كل يوم ثلاثاء دراسة حول طرح ″الحياد″ أعدها الباحث صبحي عبدالوهاب، وفيما يلي الحلقة العاشرة..

يعتبر زياد الصائغ الخبير في السياسات العامة أن موقف البطريرك الماروني ليس مستجدّاً في تأكيده على موجِب حياد لبنان. إنّها الثوابت الكيانيّة في هذا السياق الوطني المأزوم التي تستعيد وهجها. من هنا ينبثق تصميم وإصرار حاضرة الفاتيكان على تصويب البوصلة. أوَلَم تحمِل دبلوماسيّته الصامتة والفاعِلة هَمّ لبنان الرسالة في أصعب الأوقات؟  وهذا الموقف الصُّلب ليس سوى إحياءٍ لروح قيام لبنان منذ ما قبل إعلانه كبيراً في العام 1920، ويُمكن العودة إلى وثائق كثيرة تُثبت مسار إصرار الآباء المؤسِّسين على رفض العزل والإنعزال إنّما في تأكيد على موجب حماية الكيان اللبنانيّ المفترض قيامه حينها من إصطفافات المحاور من ناحية، كما من الاستقطاب الطائفيّ – المذهبيّ للخارج إلى دوّامة الداخل من ناحيةٍ أُخرى. كان تثبيت لبنان الكبير مقروناً بشرطِ حياده. وما الوثيقة (رقم 19) الصادرة عن الاتحاد اللبناني بمصر مؤرّخة في (1/12/1918)، مذيّلةً بتوقيع شخصيّات رائدة في بلورة فلسفة قيام لبنان وصيغة العيش معاً فيه، سِوى دليلٍ على أنّ “يحيا لبنان مستقِلاً، قوّته لنفسه وخيره لِبَنيه، سيّداً لا مسوداً، وحرّاً لا عبداً. وليعيش ضمانة جميع الدُول المتمدّنة فيكون صديق الجميع يكفَله الجميع، فلا يدخل في عراكٍ، ولا يكون غرَض العدوان، بل يكون بتلك الضمانة الدوليّة “سويسرا الشرق” تظلّلهُ الراحة ويخيِّم عليه النعيم، فيُرسِل من متن جباله نور الحضارة المدنيّة”. 

ومنذ العام 1918، وحتماً قبل ذلك أيضاً كان الحلم اللبناني ببناء دولة نموذجيّة، وهويّة مواطنة حاضنة للتنوّع، كان حلماً واضح المعالِم فكريّاً. العودة إلى ميشال شيحا، وشارل مالك، ويوسف السَّودا، وكمال يوسف الحاج، وغيرهم كثيرون، تُثبت هذا الوضوح في فلسفة الصيغة والميثاق. بشارة الخوري ورياض الصُلح حرّرا الفلسفة من عِقالها السيستيميّ اليوتوبيّ، ووضعاها في خيارٍ دولتيّ الانعتاق من خيار الغيتو رسّخه البطريرك الحويّك. ونهج خيار الأُمّة اللبنانيّة تبنّاه المسلمون في مفاضلة واضحة مع الوِحدة مع سوريا، وكلّ المشاريع الوحدويّة.

العالم العربي احترم خياراتنا إلى حين أفقد بعضُ من في الداخل الصّيغة والميثاق مناعتهما.  لا إمكان في هذه العُجالة لاسترجاع صدى الموبقات المدمِّرة، والزئبقيّات السياسيّة التي حتَّمت عليا فُقدان المناعة. لكن من المهمّ بمكان فَهم أنّ اتفاق الطائف أعاد تحديد الحقائق الوطنيّة التي ينتمي إليها الإجماع اللبناني، وفي مقدّمها انتماؤه إلى ثوابته بدايةً، ومن ثمّ الى الشرعيّتين العربيّة والدوليّة في مظلّة أمنٍ قوميّ يتفادى أن يكون مُنطلقاً للعدوان على أحد، ويردّ العدوان عليه دون مساومة ومواربة. العالم العربي حضن لبنان. والمجتمع الدولي حضن لبنان. الفاتيكان مع السينودس الخاص من أجل لبنان أطلق شعاراً حمله البابا القديس يوحنا بولس الثاني أنَّ هنا عندنا أكثر من وطن بل رسالة”. ثمّة بعض من في لبنان وضع نفسه، وزجَّ اللبنانيّين في عداواتٍ مع أصدقائه التاريخيّين. حاد عن الثوابت والحقائق. حياده عن الثوابت هو الجريمة الكبرى. حياده عن الحقائق التي قام عليها لبنان هو الخطيئة الأكبر. متى يستعيد الحائدون عقلانيّتهم ونقاوة انتمائهم بهويّتهم؟ والتساؤل أعلاه شديد التعقيد، لكن يحضُرني في إمكان التأسيس للإجابة عنه ما خاطب به الرئيس محمد خاتمي لبنان في مدينة كميل شمعون الرياضيّة، بيروت  بأنها ” أرض الحريّة والحوار”.

وفي محاضرة بعنوان “في سبيل حياد لبناني”، ألقى القيادي والوزير الكتائبي الأسبق أدمون رزق محاضرة نشرتها مجلة “الثقافة العربية” في كانون الثاني/ يناير 1968 فقال إن لبنان المحايد “أنفع لعياله وأبر لإخوانه، يفتح آفاق المجد  لشعبه والأمان والبحبوحة ويخدم العرب”.  وطالب النائب الكتائبي آنذاك إدمون رزق بحياد لبناني “دون تعريف، ولا حصر، ولا تخصيص، ولبنان المحايد، هو الأنفع لعيله، والأبر بإخوانه، يفتح آفاق المجد لشعبه والأمان والبحبوحة ويخدم العرب بأن يكون ملتقى لهم وموعداً يأتونه أصفياء ومتصافين، يحفظونه خارج الخلافات والنزاعات ليوم مصالحة وتفاهم لمساع حميدة وجلسات أنس ومودات”. وتحدث شارل مالك وخلال محاضرة في جامعة القديس يوسف (28 ـ 1 ـ 1969) عن حياد الدول فعدد أربعة شروط هي: الإتفاق الداخلي ـ صيانة الدولة للحياد دفاعيا وعسكريا ـ تاريخية وعراقة تراث الحياد في الدولة المعنية ـ موافقة العالم وبالأخص الجيران المباشرين على حياد الدولة واحترامهم له. وعلى ما يقول شارل مالك، “ليس واحد من هذه الأسس الأربعة قائما في لبنان”. ونشب جدال بين “الكتائب” و”الكتلة الوطنية” في الموسم الثقافي لعامي 1968ـ 1969 الذي أقامه “النادي الثقافي العربي”، بعنوان “القوى السياسية في لبنان”، ونشرت “دار الطليعة” نصوص محاضراته عام 1970، تحدث القيادي الكتائبي رشاد سلامة عن الحياد فقال “أوضحنا مفهومنا للحياد، وأوضحنا أيضا أن هذا الحياد لا يعني الصلح مع اسرائيل، وقد أقمنا الشواهد على ذلك من خلال حياد سويسرا بالذات”، ولكن حزب “الكتلة الوطنية” كان له موقف مغاير تماما إذ قال القيادي رمزي أبي فرج “الحزب يعلن من هذا المنبر إعلانا صريحا ملزما بأنه لم يكن يوما من الأيام من المطالبين بالتدويل أو التحييد، فهو يرفضهما رفضا صريحا مطلقا، ويرى في قبولهما إساءة إلى الوضع اللبناني”. هذا النوع من السجالات والجدالات السياسية والمصيرية سيعلو منسوبها بعد اندلاع الحرب الأهلية في عام 1975، وأكثر من ذلك، سترتفع حدتها كلما اتسعت ميادين الحرب واستعرت المواجهات بين أطراف النزاع والقتال وفي هذا السياق، كانت صحيفة “النهار” في عددها الصادر بتاريخ 29ـ 6 ـ 1969، قد نشرت تصريحا لعميد حزب “الكتلة الوطنية” ريمون إده اعتبر فيه أن الدعوة إلى حياد لبنان هدفها “إقامة العلاقات السياسية والتجارية مع اسرائيل وهذا لا يمكن أن نوافق عليه”، وهذا الموقف سيردده لاحقا بيار إده (“النهار” 30 ـ 3 ـ 1971) بقوله “إن فكرة حياد لبنان تجاه قضايا الدول العربية أمر مرفوض ولا يقبله العقل والمنطق والمصير المشترك بين لبنان والدول العربية”.  وفي المؤتمر الكتائبي الخامس عشر، نقلت صحيفة “العمل” الكتائبية (23ـ 9 ـ1972) عن بيار الجميل قوله  “يوم طرحنا فكرة الحياد اللبناني إنما كان بدافع الحرص على تعزيز مركز لبنان في المحافل الدولية لخدمة القضية الفلسطينية”، وأوردت صحيفة “النهار” عن بيار الجميل قوله في التاريخ نفسه إن الحياد اللبناني” يكون حيادا خاصا وليس كأي حياد آخر”. إقرأ على موقع 180  هل تهب رياح الحرب من الحدود البحرية الجنوبية؟ هذا النوع من السجالات والجدالات السياسية والمصيرية سيعلو منسوبها بعد اندلاع الحرب الأهلية في عام 1975، وأكثر من ذلك، سترتفع حدتها كلما اتسعت ميادين الحرب واستعرت المواجهات بين أطراف النزاع والقتال، ومن أمثلة ذلك: بتاريخ 28 تشرين الثاني/ نوفمبر 1975، ستخلص دراسة صادرة عن “لجنة البحوث” في جامعة الكسليك إلى المطالبة بتحييد لبنان بناء على نظام خاص تتلازم من خلاله العلاقات اللبنانية مع العالم العربي على غرار سويسرا والنمسا المنتميتين إلى الحضارة الغربية، وفي الثامن من آب/ أغسطس 1976، ذكرت صحيفة “السفير” أن الأباتي شربل قسيس يقوم بجولة أوروبية تشمل الفاتيكان “بهدف تدويل القضية اللبنانية” وبحيث تضع الأمم المتحدة “يدها على لبنان”، وفي السابع من نيسان/ ابريل 1977، وجهت “الجبهة اللبنانية” رسالة إلى القادة العرب، حذرت فيها “من التباطؤ والتردد والتمييع” حيال لبنان وإلا ستصبح “المسألة اللبنانية بحاجة إلى معالجة غير هذه المعالجة”، وحين سُئل الرئيس كميل شمعون عن المقصود من ذلك أجاب “يصبح من الضروري مراجعة الدول المسؤولة في مجلس الأمن”، وأما  بيار الجميل  فأجاب ردا على السؤال نفسه:”نرجو ألا نفقد الأمل بقدرة الجامعة العربية لئلا نضطر إلى اللجوء إلى هيئات دولية أخرى”. وفي العدد الثاني (ربيع 1980) من المجلة  النظرية “الفصول” وكانت تصدر من “دير عوكر” ويشرف على تحريرها جواد بولس وشارل مالك وفؤاد إفرام البستاني وفاضل سعيد عقل وإدوار حنين النائب السابق وأمين عام الجبهة اللبنانية عن الحياد اللبناني أن الحياد الذي ينشده اللبنانيون هو حياد أصيل ومعقد، فهو ” حياد عن الشرق والغرب، عن الأبعدين والأقربين، حياد في كل آن وحين، في حالة الحرب ، في حالة السلم، وفي حالة تحضر وتحضير، حياد كامل ناجز، لا ثغرة فيه، ولا شائبة ولا عيب حياد صادق، مخلص، نزيه، حكيم، محكم، أمين، حياد يكون حياداً وحسب، فلا هو حياد إيجابي، ولا هو حياد عطوف، ولا هو حياد جماعي، حياد يكون بالنسبة الينا حكومةً وشعباً، كنجم القطب به نهتدي وعلى ضوئه نسير”، والشيخ بيار الجميل، الذي أبدى وحده، دون سائر رفاقه في الجبهة اللبنانية، قبولا بصيغة السنة 1943، عاد وهدد باللجوء إلى حماية اجنبية، وهي  الحماية الأجنبية بالذات التي انقض عليها، مع ما انقض في السنة 1943″.  وطالب النائب الكتائبي آنذاك إدمون رزق مرة أخرى بحياد لبناني دون تعريف، ولا حصر، ولا تخصيص، ولبنان المحايد، هو الأنفع لعيله، والأبر بإخوانه، يفتح آفاق المجد لشعبه والأمان والبحبوحة ويخدم العرب بأن يكون ملتقى لهم وموعداً يأتونه أصفياء ومتصافين، يحفظونه خارج الخلافات والنزاعات ليوم مصالحة وتفاهم لمساع حميدة وجلسات أنس ومودات”. 


مواضيع ذات صلة:


Post Author: SafirAlChamal