تنشر ″سفير الشمال″ على حلقات كل يوم ثلاثاء دراسة حول طرح ″الحياد″ أعدها الباحث صبحي عبدالوهاب، وفيما يلي الحلقة التاسعة عشر..
لا تزال أطروحة ″الحياد″ تسجل حضورها بقوة في النقاشات والحوارات الإيديولوجية في المجتمع السياسي اللبناني، والمتتبع الحصيف للمشهد السجالي، سيلاحظ الإرتفاع المتصاعد لمؤثرات تزايد الإستثمار النزاعي لهذه الأطروحة التي كانت قبل بلوغ عصر “الممانعة” مثار رصد وتحليل ونقد ونقض بحيث لم يتردد الدكتور محمد المجذوب في كتابه “مصير لبنان في مشاريع” الصادرعن دار عويدات للنشر والطباعة بتاريخ 1/1/ 1987 من وصف أطروحة “الحياد” أنها محاطة ببلاغة كلامية وبأسلوب عاطفي منمق غامض يعالج معظم “أركان الحياد” وأنصاره، فكرة “الحياد” بالرغم من أنها ليست بالجديدة، وهي تطرح علينا اليوم لإعتقاد أنصارها أن الظروف الراهنة تسمح بتحقيقها.
ويشير الدكتور مجذوب الى أن “فكرة الحياد” في السياسة والفكر اللبنانيين، يعود تاريخها الى الأيام الاولى للإستقلال وقد أثيرت آنذاك بمناسبة البحث في تحديد معالم السياسة الخارجية. وتحمس لها زعماء الإستقلال لسببين: دولي وعربي. ففرنسا، التي رضيت مكرهة بمنح الإستقلال للبنان، أرادت تقييده بمعاهدة تحفظ لها بعض الإمتيازات دون بقية الدول. ورفض لبنان ذلك، واصرّ على عدم التمييز بين فرنسا وغيرها من الدول التي كان لها دور في نيل الإستقلال. أما المبرر العربي لإتباع سياسة “الحياد” في لبنان فيتلخص في تجنب الصراع الذي كان قائماً بين المعسكرين: الهاشمي (الأردن والعراق) والسعودي (السعودية المدعومة حينذاك بنظام الملك فاروق). والسباق لم يكن عقائدياً، بل تسابقاً وتهافتاً على الزعامة والسيطرة. ولهذا فضّل لبنان إلتزام الحياد إزاء المعسكرين، والقيام بدور حمامة السلام، والإستفادة من خيرات العرب. وعادت هذه السياسة بالفوائد الجمة على الطبقة الحاكمة في لبنان فجعلتها شعاراً للدولة.
فالحياد اللبناني إذن براي الدكتور مجذوب ليس حياداً إيديولوجياً، بمعنى أنه حكم على سياسة ما، أنها خير وأخرى انها شر. وليس حياداً طموحاً، بمعنى أنه مساهمة في حل مشاكل العالم عن طريق السياسة الحيادية، كما هو الأمر بالنسبة للهند مثلاً. وهو ليس حياداً قانونياً كالنمسا وسويسرا، ولكنه حياد عملي واقعي، هو أشبه ما يكون بسياسة نفض اليد وعدم حرق الأصابع بنار الخصومات والمشاكل الدولية . فالعمل أي عمل ، مجازفة. والرأي أي رأي، يسبب مشاكل ومتاعب. والحكمة كل الحكمة في حركة باطنها سكون وكلمة باطنها التنصل. غير أن هذه السياسة التي كان لها ما يبررها في السنوات الأولى لعهد الإستقلال لم تعد صالحة للإستمرار، ولم تعد قادرة على مواكبة الأحداث المستجدة وإرضاء الطموح اللبناني، ولا سيما بعد بروز عاملين: قيام إسرائيل التي أصبحت تهدد، بأطماعها التوسعية، لبنان وبقية دول المنطقة، ثم تغيرت طبيعة الخلافات العربية التي أصبحت خلافات حول العقائد والمبادىء والإتجاهات السياسية والإجتماعية. وكان من المفروض أن تقلع الطبقة الحاكمة عن خطة الحياد السابقة، ولكنها لم تفعل، لأسباب تتعلق بمصالحها ومكاسبها المادية. بل إنها في منتصف الخميسنيات، حاولت خداع الرأي العام اللبناني والعربي وتمويه حقيقة إنحيازها الى الغرب الإمبريالي، فإدعت أن الحياد اللبناني ليس سوى إمتداد طبيعي للميثاق الوطني الذي يدعو الى تخلي لبنان عن الإرتباط العضوي بالشرق والغرب على حد سواء. وهذا الإدعاء الذي يرمي الى ربط سياسة الحياد اللبناني بالميثاق الوطني ذكرنا به زميلنا الدكتور جورج ديب بقصة عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري، التي إنتهت بخلع الإمام علي وحده، لأن الحياد، كما أرادوه وطبقوه، أدى الى التخلي عن العرب فقط والإنحياز الى الغرب، وحافظ على الفكرة اللبنانية القديمة القائلة بان لا حماية للبنان بغير الضمانات الأجنبية.
مواضيع ذات صلة: