شهرُ شُباط 2023 دونَ بَقِيَّة شُهور السَنَة مَرَّ بسرعةٍ فائقة، متميِّزاً بِما خَلَّفَ وراءه مِن الضحايا والجَرْحى من مُكَوِّنات الشعب اللبناني، سِوَاءً كانوا ينتمون إلى كَنَفِ الدولة ومؤُسَّساتِها أَم كانوا مِن المجتمع المدني. تَسَابَقَ المُكَوِّنان دونَ قواعد مُحدَّدة وتَسَارَعا للوصول إلى شَفيرِ الهاوية وليسَ هُناكَ مِنْ جائزةٍ لِمَنْ يَصِلَ أوَّلاً. المُحَصَّلَة واحِدة، نحنُ وإياهُم جميعاً أصْبَحْنا في قِعْرِها.
يُعاني لبنان حاليَّاً من أزمة مالية اقتصادية هي الأسوأ في تاريخه. الدولةُ أركانها تَتَهاوى سياسياً الواحِدة تِلْوَ الأُخرى، بِدءاً بِقِطاع التربية والتعليم الذي عَانَى مِن مشاكل عديدة وما يَزال، شَملت كلٍ مِن الأساتذة والطلاب دونَ الوصول إلى الحلولِ المرجُوَّة. أيعقُلُ هذا وبيروت مركز العلم والثقافة وموطن حرية الفكر في الوطن العربي منذُ بِداية القرن العشرين؟
في الجلسةِ الرابعة لمجلس الوزراء اللبناني، حَصَلَ هذا القطاع على جائزةِ ترضية تُعْطِي للمدرسين قيمة مالية بمقدار خمس ليترات بنزين عن كل يوم عمل. هذا الحل لن يؤدِّي إلى إصلاحٍ حقيقي للقطاع التربوي في شتَّى مُكَوِّناته ومُسْتَوياته. هذا الفشل سببهُ عدم قدرة خزينة الدولة على الدفع.
في هذا السياق سَبَقَ وأعلنت وزارة النقل أنَّ ميزانيتها لا تَلْحَظ أكثر من مليون دولار لتغطية أي من النفقات القادمة.
ويَبْقى أمام وزارة المال حلٌ واحدٌ هو الاستمرار في طباعة النقد، نتيجتُهُ المعروفة التضخُّم ثُمَّ انهيار العملة الوطنية أمام سعر صَرْف الدولار.
هذا ما أقرَّهُ البيان الوزاري الأخير، لا موازنة قريبة ستَصْدُر وسَيَسْتَمرّ الإنفاق على القاعدة الإثني عشرية وذلك في غياب حصر موارد الدولة المالية في الوقت الراهن. أيُ تعليلً هذا، عدم قدرة موظفي الوزارة على إحصاء مواردها؟ تَنَاسَى الجميع وعودَهُم السابقة لصندوق النقد الدولي بِوَضْعِ موازنة العام 2023 وإرسالها رسمياً للجهات المختصة. أيُّ مواطن عادي يَفْهَم مِنْ هذا الأداء الحكومي أنَّهُ إعلان خفي عن إفلاس الخزينة.
كما أنَّ قطاع القضاء، التابع لوزارة العدل، وبَعْدَ توقُّفِه عن العمل والانقسام الحاد في مؤسَّساته، ما لَبِثَ أن حَطَّمَ آمال معظم الشعب اللبناني، خاصة ذوي الضَحايا الشُهَداء، كما الجَرحى والمُتَضرِّرين في قضية انفجار مرفأ بيروت، الأمل بإصدار القرار الظني أو القرار الاتهامي من قبل المُحَقِّق العدلي القاضي بيطار، المُكَبَّلة يَدَاه من قبل الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان.
القضاء البريطاني كانَ أكثرَ حنوّاً فأصْدَرَ قراراً قضائياً على شركة سافارو (Savaro) الشاحِنة لِنترات الأمونيوم، مِمَّا يُشَكِّلُ رأسَ خَيْط قد نَصِل من خلاله إلى حقيقةٍ ما في تفجيرِ مرفأ بيروت. من جهةٍ أُخرى، يَبْدو وكأنَّ الدول الكبرى، ودول الإقليم بالذات، اتَّفَقوا جميعاً على طَمْسِ الحقيقة بأكْمَلِها في انفجار المرفأ، دونَ تنسيقٍ مُسْبَق مع ساسة لبنان.
جسمُ القضاء اللبناني فَشِلَ أيضاً في كثيرٍ من القضايا الهامة الراهِنة التي تُعْتَبَر حَيَويَّة للشعب اللبناني. أبرزها:
• قضية المُودِعين في المصارف.
• تُجَّار الصيرفة وتَهريبهم العملة إلى خارج الحدود.
• آلاف المساجين الذين ما زالوا موقوفين دونَ مُحاكمة منذُ سنواتٍ طويلة.
• مُحاربة الفساد في شَتَّى صُوَرِهِ بما فيها التهرب الضريبي الذي يَحْرم خزينة الدولة من ضَخّ موارد مالية لها.
• إضراب قطاع المصارف، الشريان الحيوي للبلد، لمدّة شهرٍ كامل، تَمَّ تَعليقُهُ دونَ الوصول إلى حلولٍ حاسِمة.
• عَدَمْ التوصُّل الى إعادة هَيْكَلَة المصارف وجَدْوَلَة ديونها للمُودِعين خاصةً.
• عدم تَمَكُّنْ البنك المركزي من لَجْمِ الارتفاع الحاد للدولار الأمريكي، بدون سقف منظور.
ويَبْقى الحالُ فوضى عارمة ما بين البنوك والبنك المركزي من جِهة، والدولة والمودعين من جِهة أُخرى، وحاكم مصرف لبنان يَتَلَهَّى مُتَفَرِّجاً على ما يَدور في فَلَكِه من تَطَوُّر في الملاحقات القضائية من داخلِ وخارجِ لبنان، آملاً ان يُجدِّدْ لهُ أصحاب الشأن.
كذلك الامر بالنسبة إلى وزيريْ الزراعة والاقتصاد، حيثُ أغْفَلا عن تطبيق القاعدة الذهبية في أصول الأمن الغذائي وتَوَاجُد المادة الغَذائيَّة في السوق المحلِّي اللبناني، وذلك بالسّماحِ لتاجرٍ جشع أَخَلَّ بالقانون العام بالشراء والتصدير واشترى كامل المحصول المحلي من البصل وصَدَّرَهُ إلى خارج البلاد، مِمَّا أدَّى إلى ارتفاع حاد لِسِعْر هذه السلعة في السوق المحلي. فأينَ هُم مُمَثِّلو الوزارات من المراقبة والتحكم في أصول أعمال التجارة والاقتصاد في السوق اللبناني؟ وكَأَنَّ المرافق العامة في الدولة شبه مُعَطَّلة والمواطن اللبناني يَقِفُ عاجزاً أمام الاهتراء العام للخدمات والفساد المستشري.
أكتفي بِسَرْدِ هذه القطاعات إذ لَمْ يبقَ في لبنان سوى قطاعين نُشيدُ بهما هُما أولاً مؤسسة الجيش اللبناني، حامي سياج الوطن، ويَعودُ ذلك إلى حكمة قائده العماد جوزيف عون، وأدائه المُمَيَّز ونزاهة كفِّهِ في توزيع المساعدات الدولية الخارجية للمؤسسة.
أما القطاع الثاني، فهو وزارة الداخلية بمؤسَّساتها الأمنية والمُحاولات الحَثيثة لوزيرها المَرِنْ للتأقلُمِ في ظِلِّ الظروف الراهنة المُتَرَدِّية.
في هذا الشهر لا يمكننا المرور سريعاً دون التوقُّف والتأمُّل، مَنْ وَقْعِ حِسِّنا الإنساني، عند مشهد الشهداء في الجيش اللبناني الذين وقعوا ضحايا إثرَ مطاردتهم لتجار ومُهرِّبي المُخَدَّرات في منطقة بعلبك والتي تُعْتَبَرْ منطقة محظورة على أجهزة الدولة. عددٌ كبير من أفراد الجيش وَقَعوا سابقاً ضَحَايا هَذِهِ الآفة في تاريخ لبنان السياسي وهي المخدرات في شَتَّى صُوَرِها وأنواعِها وكذلك هي الحال في دولٍ مختلفة مثل الهند، الصين، الباكستان، أفغانستان، المكسيك، كولومبيا، مصر، المغرب وغيرها، علماً أَنَّ أوَّل نبتة حشيش (القنب الهندي) دَخَلَت لبنان عام 1930 عن طريق الهند. وُصِفَتْ حشيشة الكَيْف بأشكالٍ مُتَعَدِّدَة عَبْرَ التاريخ. تَسَابَقَ المُفَكِّرون والمُحَلِّلون السياسيون في العالم وانتهجوا طُرق مختلفة في توصيف وتَعْريف المُخدِّرات وإنْ كانَ بتقنية أدبية مستعارة (Metaphor) وقد أسَاءَ أحدهم التعبير عن تأثير هذه الآفة بشكلٍ خَدَشَ به القِيَم والأخلاق، حينَ قال بثلاث كلمات “الدين أفيون الشعوب”. صحيحٌ أنَّ زهرة الأفيون جميلة بشكلها إنَّما هي السُمُّ الزُعاف في تكوينها وتَقضي على خلايا الجسم البشري وفِكره. هذه الزهرة حَطَّمَت شعباً عريقاً عبرً التاريخ لعقودٍ من الزمن مِنْ أكبر شعوب العالم تعداداً وفكراً هوَ الشعب الصيني، وذلك حوالي مُنْتصف القرن التاسع عشر. مِنْ هُنا فإنَّ توصيف الدين بأفيون الشعوب، الذي انْتَشَرَ كثيراً في نوادي السياسة الدولية، أُسيءَ اسْتعماله في كثيرً من المناسبات والندوات السياسية المأجورة، و هو قولٌ معروف عن الألماني كارل ماركس، الشيوعي النزعة، اليهودي الأصل، عدُوّ للأديان جميعها. بالرغمِ أَنَّ هذا الموضوع خارج سياق مقالنا لكِنَّهُ بالأهمية بِمكان كَي نَسْتَطْرِد القول بأَنَّهُ لا يَنْطَبِق بالمُطْلَق على حضاراتنا المسيحيَّة، الإسلاميَّة والعربيَّة في تاريخِنا المُشَرِّف.
ما أريد ذكره هنا أَنَّ حروب الأفيون (المُخَدَّرات) استُخْدِمَت من قبل المُسْتَعْمِر البريطاني مُنْذُ قِدَم التاريخ، للسيطرة على ثروات بلاد الصين الشاسعة وحَقَّقَت بريطانيا آنذاك أرباحاً طائلة من جَرَّاء هذه التجارة غَيْر الشرعية دولياً. اِنتهت هذه الحروب بمُعاهدة نانجينج الشهيرة، وُقِّعَت آنذاك بين الصين وبريطانيا وأنْهَت أَقْذَر حروب التاريخ في فترة ما بين 1664 و1912.
الجدير بِالذِكْرِ أَنَّ البرلمان اللبناني أَقَرَّ زراعة الحشيش (القنب الهندي) لأغراضٍ طبية وصناعية لتوفير موردٍ إضافي للخزانة العامة في ظِلِّ أزمةٍ اقتصادية غَيْر مسبوقة، غَيْرَ أَنَّ القانون لَمْ يُعْمَل به حَتَّى الآن. يَدْخُل هذا التشريع في سلسلة القوانين الصُوَريَّة، أِذْ لا هيئة ناظِمة ولا مراسيم تَطبيقيَّة صَدَرَت حَتَّى الآن، وأَصْبِحِ حِبراً على ورق، وما زالَ القانون اللبناني يُعاقِبْ على زراعة الحشيش بالسَجْنِ والغرامة المالية.
بالإشارة لما يَحْدُثُ حالياً في لبنان، أخَذَت تِجارة المُخَدَّرات مَنْحىً يَسْتَلزم إحداث طرق أَنْجِعْ لِمُكافحتها وتقنيات جديدة لِقَمْعِ انتشارها، مِنْ قبل الأجهزة الأمنية المختصَّة، وذلك مَنْعاً لانتشارِها داخل المجتمع اللبناني وحِماية للمواطنين، من آثارِها السلبية النفسية والجرمية، وتَحَسُباً أَنْ يُصبِح لبنان مقراً ومَمَرَّاً لهذه الآفة. وقد رأينا مؤخراً المجتمع الدولي والعربي يُصَوِّبُ الاتِّهام المباشر للحكومات اللبنانية المتعاقبة، بالتقصير في مُعالجة هذا المَلَفّ، مَلَفّ المُخَدَّرات.
هذا البُعْد الجديد للمُخَدَّرات، ذوُ الطابع السياسي والاقتصادي، تَجَاوزَ حدود لبنان. أنْتَجَ ملفاً سياسيَّاً شائكاً يُنَاقَشُ الآن في المجالس الدولية والإقليمية. و قد أشارَ إليه بالأمسِ القريب وزير الداخلية اللبناني القاضي مولوي، في الدورة ال 40 لمجلس وزراء العرب المُنْعَقِد في تونس ، بكلمة قوية ومُعَبِّرة نَذْكر منها ” وضَبْط مُحاولات تَهريب المُخَدَّرات إلى خارج لبنان، تُصْنَع ُمِنْ قِبَل أيادي الشر من خارج الحدود إلى دول العالم ومِنْها بلداننا العربية”. كلمةٌ مقتضبة إنَّما تَحْمُل في ثَناياها مَعانٍ كبيرة. خلال فترة وجيزة من شهر شباط سَقَطَ عدد من الضَحايا، عَسْكريين ومدنيين، بسبب الإتجار وتعاطي المُخَدَّرات الناتجَيْن عَنِ العَوَز والفَقْر. هذه الضحايا مِن مناطق بعلبك، الشوف، الكرنتينا ومناطق أخرى. أمثلةٌ حيَّة لا تَغيبُ عَنْ مَخِيِّلَتِنا لِما أحْدَثَتْهُ آفة المُخَدَّرات في المُجتمع اللبناني حَيثُ أصْبَحَ لِزاماً على الدولة والهيئات المدنية، الشروع بتَحْصين اللبنانيين ضِدّ هذه الآفة المُنْتشرة. أخيرا إِنَّ المُخِدَّرات في جميع صُوَرِها هي سَيْف حاد مُسَلَّط على رِقاب الشعوب لِتَفْكيكها والسيطرة عليها. وليسَ أمام هذه الشعوب سوى الَتسَلُّح بِمكارم الاخلاق والتَمَسُّك بأصول التربية ومِنْ ثُمَّ قواعد التعليم الصالحة لمُكافحة الجَهْل وتَحْصين الأفراد في المجتمع وما أَحْوَجْنا اليوم إلى قول أمير الشُعَراء
“إنما الأمم الأخلاق ما بَقيت فإن هُمُ ذَهَبَت أخلاقُهُم ذهبوا”.
الكاتِبْ المُهَنْدِس شَفيقْ مَلَكْ
Related Posts