كان ينقص مدينة طرابلس أن يغرق بعض أبنائها في قارب موت قبالة شاطىء مدينة الميناء خلال هروبهم ليلاً بطريقة غير شرعية إلى أوروبا، كي “يكتمل النقل بالزعرور” على حدّ المثل الشّعبي الشّائع.
وكأنّه لم يكن ينقص طرابلس ما تعانيه من أزمات خانقة إقتصادياً ومعيشياً وإجتماعياً، فأتت حادثة غرق مركب الموت لتزيد الطين بِلّة، ولتجعل المدينة الصامدة والصابرة والمحرومة تدفع من فلذات أكبادها ضريبة إهمالها وحرمانها التاريخيين، ولتصاب بكارثة لم تعرفها طرابلس من قبل، وشكّلت فاجعة لعائلات وأحياء ومدينة بأكملها، إضافة إلى عكّار والضنّية اللتين سقط منهما ضحايا فضلاً عن مفقودين.
عشرات المواطنين الهاربين من جحيم العيش في بلد أصبحت الحياة فيه لا تطاق، قاموا بمغامرة خطيرة وغير محسوبة، بعد أن استغلتهم عصابات ومافيات تهريب البشر إلى الخارج وجعلتهم يدفعون كلّ ما يملكون، ويبيعون الذي فوقهم والذي تحتهم من أجل الهروب من وطن لم يعودوا يجدون فيه الحدّ الأدنى من العيش بكرامة، وإلا ما الذي يدفعهم إلى الأمرّ الذي هربوا إليه إلا المرّ الذي يعيشونه؟
فهذه المدينة التي تتمتع بكلّ المقومات التي تجعلها من أفضل مدن لبنان وشرق البحر الأبيض المتوسط، للعيش والإقامة والعمل وطلب العلم والتسوّق والتنزه وغير ذلك، تعيش منذ سنين في وضع كارثي ومأساوي على كل الصعد، من تردي الخدمات الأساسية فيها، وضعف البنى التحتية من طرقات ومياه، وغياب الكهرباء، وارتفاع تكلفة فاتورة كهرباء الإشتراك، وتراجع مستوى التعليم والطبابة، وتفشّي البطالة وجمود الحركة التجارية، وإقفال المؤسّسات وصرف العمال والموظفين في السنوات الأخيرة، من غير أن يدفع ذلك الدولة بكل وزاراتها ومجالسها وهيئاتها للنظر إلى هذه المدينة، وإيلائها قدراً من الإهتمام ورفع الظلم والحرمان عنها.
حجم الفاجعة التي أصيبت بها طرابلس كبير جدّاً، وردّ الفعل الذي شهدته بعد الكارثة التي أصيبت بها متوقع، مع أنّه مرفوض وغير مقبول، لكن كيف يمكن إقناع الجياع والمرضى والعاطلين عن العمل والغاضبين والمفجوعين والمظلومين والمهمشين أن يكون ردّ فعلهم غير الذي قاموا به، برغم الخشية الدائمة من دخول أكثر من طابور خامس لتحويل الأمور في اتجاه آخر من الفوضى والعبث وأعمال الشغب، وإجهاض أيّ مسعى لرفع الظلم والحرمان والإهمال عن طرابلس.
فالصدمة التي تلقتها طرابلس في الأيّام العشر الأواخر من شهر رمضان، جاءت لتضرب الحركة الإقتصادية والتجارية التي تنتظرها أسواق المدينة كلّ عام، وتنقذها من ركودها الذي يشلّها منذ سنوات، لكنّ حادثة غرق قارب الموت وتداعياتها قضت تقريباً على أيّ أمل في إنقاذ إقتصاد المدينة، وضخّ القليل من الحركة في شرايينها المتجمّدة.
ما حصل في طرابلس مؤلم على كلّ الصعد، والأكثر إيلاماً فيه هو الاستثمار الانتخابي بالشهداء الذين سقطوا، بحثا عن أصوات وحواصل بين الجثث العائمة على سطح البحر، وتلك العالقة في المركب الذي هوى على عمق أكثر من 300 مترا..
Related Posts