على مدى الأيّام الثلاثة الماضية، وبشكل متفاوت نسبياً، شهدت مدينة طرابلس وضواحيها ما يشبه ″التمرّد″ و″العصيان″ على قرار الحكومة تمديد فترة الإغلاق العام حتى الثامن من شهر شباط المقبل، وهو القرار الذي فُسّر بأنّه لمواجهة فيروس كورونا ومنع تفشيه، بعد ارتفاع مضطرد وخطير في أعداد الوفيات والمصابين بسببه في الآونة الأخيرة.
شرارة الإحتجاج على القرار بدأت يوم الجمعة الماضي، بعد مضي نحو 24 ساعة على القرار الذي اتخذته حكومة تصريف الأعمال برئاسة حسّان دياب، يوم الخميس الماضي في 21 كانون الثاني الجاري، يقضي بتمديد قرار الإغلاق 18 يوماً إضافياً، ما أثار إمتعاضاً شعبياً عارماً في عاصمة الشمال.
يعود الإعتراض في طرابلس على قرار الحكومة إلى سيرورة تاريخية ربطت العلاقة بين الفيحاء والسلطة المركزية في العاصمة بدأت منذ نشوء دولة لبنان الكبير قبل 100 عام، وما تزال، وهي علاقة قامت واستمرت وبقيت مرتكزة طيلة السنين الماضية على النظر لمدينة طرابلس باعتبارها ملحقاً ومن مناطق الأطراف، فنالت كلّ أنواع التهميش والحرمان والإهمال، ما جعل طرابلس تنظر إلى أيّ قرار تتخذه الحكومة على أنّه قرار يريد استهدافها والنيل منها قبل أيّ شيء آخر، فردّت بالتعامل مع قرارات السلطة بالرفض والإعتراض، سلمياً تارة وعنفياً تارة أخرى.
لا يختلف قرار الحكومة الأخير بتمديد الإقفال العام عن لائحة طويلة من القرارات التي اتخذتها الحكومات المتعاقبة على مدى 10 عقود، نظرت إليها طرابلس بغضب ورفض وعدم رضى، ففي مدينة يسكنها أكثر من نصف مليون نسمة على الأقل، يزيد على 55 في المئة منهم يعيشون تحت خط الفقر، لا يعني قرار الإقفال بالنسبة إليهم سوى الموت جوعاً، وازدياد معاناتهم نتيجة توقف أشغالهم، وهم الذين يعيشون يوماً بيوم من أجل تأمين قوت يومهم ولقمة عيش عائلاتهم.
يوم الجمعة الماضي نزل مواطنون غاضبون، رجال ونساء وأطفال، إلى مداخل المدينة وشوارعها الرئيسية، من البداوي والمنكوبين شمالاً، إلى تقاطع شوارع المئتين وعزمي والمصارف وطلعة العمري والقبة، وصولاً إلى ساحة عبد الحميد كرامي (النور)، عدا عن شوارع مدينة الميناء وكورنيشها البحري، ما قطع أوصال المدينتين، وجعل حركة السير فيهما مشلولة، بعدما قام محتجون بإغلاق الشوارع بإطارات السيارات المشتعلة وحاويات نفايات وحجارة، في حركة إعتراضية إستمرت ثلاثة أيّام متتالية، ولو بشكل متفاوت، لكنها أعطت إشارة إلى أنّ استمرار إقفال البلاد على هذا النحو من غير تأمين حاجيات المواطنين الضرورية خلال فترة الإقفال ليلتزموا بيوتهم، من مأكل ومشرب ودواء، يعني أنّهم سيرفضونه، وبأنّ الإعتراض عليه سيكون في الشارع وليس في مكان آخر.
طيلة فترات الإقفال السابقة رُميت المسؤولية على المواطنين وتسبّبهم في تفشّي الفيروس على نطاق واسع، وارتفاع أعداد الوفيات والمصابين، لأنّهم لم يلتزموا كفاية بتعليمات وزارة الصحّة، ولا بإجراءات وزارة الداخلية، وهي مسؤولية لا ينكرها أحد نظراً لتعاطي قسم واسع من غالبية المواطنين باستخفاف وجهل مع الفيروس اللعين؛ لكن بالمقابل فإنّ مسؤولية الدولة بكلّ وزاراتها وأجهزتها كانت كبيرة، فهي لم تتعاط بجدّية وتخطيط في مواجهة الجائحة، بل غلب عملها التسرّع والتخبّط والفوضى، ما جعل المشكلة مزدوجة تتحمّل الدولة والمواطنين تبعاتها، ولو أن مسؤولية الجهات الرسمية كانت مضاعفة.
كل ما سبق أعطى إشارات واضحة الى أنّ طرابلس لا يمكنها التعاطي مع قرارات السلطة بقبول تام، من غير أن تأخذ خصوصيتها وتاريخ علاقتها معها بعين الإعتبار، وأن عامل الثقة المفقود بين طرابلس والسلطة يحتاج إلى ظروف وعوامل كثيرة كي يولد ويترسخ، وهو أمر لم يتحقق طيلة قرن مضى.
مواضيع ذات صلة: