أكثر من عشرة أيام مضت على اغتيال القائد إسماعيل هنية في طهران والسيد فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية، وما زال الردّ المنتظر يُترجم في “إسرائيل” شللاً شبه تام للمرافق الحيوية والاقتصادية وحصاراً للحراك الاجتماعي العام وتخبّطاً سياسياً يعمّق حال الانقسام الداخلي واستنفاراً عسكرياً غير مسبوق في الجو والبرّ والبحر.
الردّ المتوقّع ثلاثي الجهات من حزب الله وإيران واليمن تصحبه أضخم حرب نفسية على مستوى التصريحات والمواقف فضلاً عن التسريبات والتحليلات التي أطنبت في رسم سيناريوهات الانتقام والثأر، وما يمكن أن تستتبع من ردّ مضاد قد يؤدي إلى تدهور الأوضاع، فيضع الشرق الأوسط برمّته على فوهة بركان متفجّر لن يوفّر دول المنطقة من حممه الحارقة.
أكثر السيناريوهات تفاؤلاً يتوقّع أن يكون الرد من إيران متوازناً ومحدوداً بفعل الضغوطات الهائلة التي تمارسها العواصم الكبرى في العالم وتدفع باتجاه “عدم استفزاز بنيامين نتنياهو” فلا يرفع سقف المواجهة إلى مستويات أكبر، أما أكثرها تشاؤماً فيتوقّع أن يستدرج ردّ إيران وحزب الله تصعيداً إسرائيلياً يقود إلى نشوب حرب إقليمية وقد تستدرج أطرافاً أخرى فتأخذ الحرب بعدها العالمي.
في موازاة التوقّعات المزدحمة، وهي بمعظمها من تركيب مصادر إسرائيلية، يبرز واقع حقيقي تشهده “إسرائيل” يتمظهر في سياقين، الأول: هستيريا الخوف التي تضرب مكوّنات المجتمع الصهيوني وسط إغلاق شبه كامل لمختلف مقوّمات الاستمرار في دورة الحياة اليومية، مطارات معطّلة، مؤسسات مقفلة، أعمال متوقفة، حتى أن حكومة نتنياهو تجري اجتماعاتها الضرورية في نفق تحت الأرض خوفاً من الضربة المتوّقعة في أي لحظة.
أما الثاني: فسعي محموم من قبل واشنطن وتوابعها في أوروبا والمنطقة العربية للضغط على إيران وكبح جماحها للحيلولة دون توسّع رقعة الحرب، ويجري ذلك بالتوازي مع استقدام الولايات المتحدة عدّة الحرب الشاملة من طائرات حربية متطوّرة وسفن حربية ودعم لوجستي وعسكري تحت عنوان “الدفاع عن إسرائيل والحدّ من تنامي التوتّر الخطر في المنطقة”.
ولعلّ الناقض هو الميزة الأوضح التي تطبع فوضى التوقّعات والمواقف والتصريحات، وهو ما وضعته مصادر مطّلعة في خانة الحرب النفسية المضادة، مشيرة إلى أن كمّ التسريبات الذي صدر عن وسائل إعلام أميركية وغربية وإسرائيلية أسهم بشكل كبير في زيادة نسبة التوتّر لدى الجمهور الإسرائيلي الذي لا يفارق “الغرف المحصّنة” ولا يجرؤ على التنقّل بين الأماكن إلا للضرورة القصوى، ولا يسري هذا الواقع على المستوطنات الشمالية شبه الفارغة بل يشكل كل الخارطة الإسرائيلية على أرض فلسطين ومدنها الرئيسية كتل أبيب وحيفا ويافا ومنطقة غوش دان، وانعكس هذا التوتّر أيضاً في تصريحات مسؤولي العدو التي دلّت على عمق حال الانقسام في المستوى السياسي، والشعور بتضاؤل آفاق التهدئة بعد أكثر من عشرة أشهر من القتال المتواصل في الشمال والجنوب.
وتلفت المصادر المطّلعة إلى أن واشنطن توحي للجميع بأنها لم تعد قادرة على التحكّم بالقرار الإسرائيلي، فلجأت إلى الضغط على ما تعتبرها الحلقة الأضعف، أي إيران، حيث تسعى إلى تشكيل حال من التوازن السلبي بين “إسرائيل” التي تعاني رعباً حقيقياً تسبّبت به وضعية الانتظار والترقب للضربة النارية، وبين محور جبهة المقاومة من خلال استخدام سياسة العصا والجزرة أو أسلوب الترهيب والترغيب، فتارة تغريها بالتخفيف من العقوبات المفروضة عليها والموافقة على الاتفاق النووي وتسهيل مهمة الرئيس الجديد في تنفيذ الوعود التي أطلقها بتحسين الوضع الداخلي في إيران، وتارة تهدّد بأنها لن تدع “إسرائيل” لوحدها وتنشر أساطيلها البحرية والجوية في المنطقة كعلامة تحذير جدّية.
شمل السعي الأميركي كل مستويات الحكم في الولايات المتحدة بدءاً من جو بايدن وصولاً إلى أدنى مستويات التمثيل السياسي والعسكري، وهذا يدلّ على المستوى العالي جداً من القلق والترقّب، كما يدلّ على عمق الأزمة الفعلية التي وصلت إليها “إسرائيل” في عهد نتنياهو، والتي تهدّد الكيان المؤقت في وجوده وإمكان بقائه.
وهنا تعلّق المصادر المطّلعة نفسها بالقول: “لئن كان الأميركي يأمل في أن يستحدث كوّة في الجدار الإيراني من باب حصر المسألة في المعطى الفلسطيني البحت، فيطرح مقايضة وقف النار في قطاع غزة والاتفاق على تفاصيل اليوم التالي بعد الحرب مقابل عدم الانتقام لاغتيال القائد إسماعيل هنية، فهل يمكن أن تتنازل إيران عن انتهاك سيادتها وتتجاوز واقع أن الجريمة حصلت على أرضها وفي قلب عاصمتها طهران؟! وأي منطق تحاول واشنطن تسويقه من خلال تصوير الاستهداف وكأنه موجّه للشخص وليس للقضية التي طالما أعلنت إيران التمسّك بها كقضية مركزية لا تخص الفلسطينيين أو العرب بل تشمل المسلمين في كل أقطار الأرض؟!
وعلى خط موازٍ، كيف السبيل إلى فك عقدة ردّ حزب الله رداً على اغتيال الشهيد فؤاد شكر؟! وكيف يمكن الربط بين إقناع الحزب بعدم الردّ على استهداف عقر داره وبيئته وخزّانه الحيوي أو بالاكتفاء برد شكلي أو متوازن وبين وقف العدوان على قطاع غزة؟! خصوصاً أن الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله أكّد بوضوح أن جبهة إسناد المقاومة الفلسطينية لا علاقة لها بالردّ على الاعتداءات التي تتجاوز خط المواجهة الحدودية، وعليه فإن الردّ على اغتيال شكر ليس مرتبطاً بأي شكل من الأشكال بأي تسوية متعلّقة بقطاع غزة، والقرار فيه حتمي. ولا نغفل هنا أيضاً الرد اليمني المحسوم على الاعتداء الإسرائيلي الذي طاول ميناء الحديدة، والذي انضم بدوره إلى معادلة الضغط النفسي الذي يلقي بثقله على “إسرائيل” ووجودها.
أخيراً تعرب المصادر المطّلعة عن اعتقادها بأن المحاولات الأميركية لن تؤتي أكلها، ليس لأنها ستكون قرعاً على طبل مثقوب فقط، بل لأن نتنياهو نفسه لن يكون طيّعاً للالتزام بالمحدّدات الأمريكية، فهو يصرّ على مواصلة الحرب لأنه يفتقر إلى الخيارات التي تتيح له تحقيق أهدافه التي يكرّر تأكيدها في كل مناسبة، كما أنه ما يزال يراهن على إمكان نجاحه في استدراج الولايات المتحدة للتدخل المباشر في مجريات الحرب لأنها وحدها برأيه قادرة على تزويده بحبل النجاة من السقوط، والذي لو حصل سيُدخل المجتمع الصهيوني بأجمعه في نفق الانقسام الحاد ويأخذه إلى أتون حرب أهلية تحمل معها بذور الزوال الحتمي.
Related Posts