لبنان أمام بانوراما الأحداث!… شفيق ملك

العالم بمعظمه يدور في حروب عبثية. الحرب القائمة بين روسيا وأوكرانيا مستمرة تشارف على مرور السنتين منذ اندلاعها في شهر شباط 2022. لم تقتصر حدودها عند القارة الأوروبية فحسب، بل امتدت نيرانها إلى قارة أفريقيا بمسمى آخر. حروب داخلية في معظم المدن الرئيسية في السودان.
الاضطرابات المتنقلة في الأراضي السورية منذ عام 2011 شملت أيضا دولاً قسَّمتها وشتَّتتها مثل العراق، اليمن وآخرها ليبيا التي شُطِرت إلى قسمين، بتدخل من دولٍ كبرى وصولا إلى تقاسمهم مغانم ليبيا النفطية. إلى أرمينيا جنوب القوقاز والصراع المعقد تاريخيا بين أذربيجان والانفصاليين الأرمن على الأرض المتنازع عليها والمعروفة بناغورنو كاراباخ، انتهت بهزيمة أرمينيا وتخلي روسيا كليا كحليفة لها مع صمت مريب من قبل إيران وتركيا.
عدوى الانقلابات في إفريقيا ينتقل إلى دول غرب ووسط إفريقيا، وفي خلال السنوات الثلاث وصلت إلى ثماني انقلابات عسكرية كان لها الأثر الكبير في التغيير السياسي الاقتصادي والعسكري في تلك البلاد.
لم تكتف الطبيعة بالانكفاء على توازنها، بل لفظت ما في باطنها من حمم البراكين الثائرة والهزات الأرضية ضربت كل من تركيا، سوريا وآخرها الخوذ المغربية بزلزال بشدة 7 درجات جنوب غربي مراكش. إعصار دانيال الذي ضرب مدينة درنه في ليبيا في شهر أيلول. هذه البانوراما من حروب دائرة وكوارث طبيعية كانت حصيلتها خسائر بشرية فادحة بالأرواح ونزوح في البلاد المنكوبة. دمار في الممتلكات في البنية التحتية لتلك البلدان المذكورة تقدر بخسائر مالية تفوق المليارات.
لبنان هذا الكوكب الصغير بمساحته وتميّزه الجيوسياسي في المنطقة هو في حالة استنهاض من جديد أمام الأخطار المحدقة به من جميع الاتجاهات. لبنان يصارع أزمة سياسية حادة قاربت السنة بانتظار الحلول السياسية بين بدعة الحوار والترياق القطري القادم في صنع رئيس للجمهورية اللبنانية.
العدو الإسرائيلي يعد الخطر الأول القائم منذ أيام النكسة لعام 1948. يواجه لبنان عدواً حظي بتأييد واسع أممي قابله تخاذل كبير وتجارة باسم القضية ساد على أثرها صمت مشبوه أمام المحافل الدولية. لسنا بحاجة إلى جرد قائمة بالأسماء للدول التي ساهمت في خذلان قضية فلسطين العربية. والفصائل الفلسطينية في تشتت وحروب داخلية وسعي إلى توحيد الساحات.
لا شك في أن الترسيم البحري الذي صنع برعاية أمريكية ومشاركة فرنسية تحت اسم توتال وأيادٍ خفية محلية لم ترغب عن كشف مواقعها، بل ظهرت فقط بصماتها. جاء الترسيم البحري على طبق من فضة للعدو بتنازل لبنان عن الخط البحري الذي توصل إليه الجيش اللبناني كخط حدودي نهائي وتم التوقيع ولمع اسم عرَّابه المفاوض الأمريكي أموس هوكشتاين، الذي عاد مجددا منذ فترة وجيزة إلى لبنان ليكمل المسار ويرمِّم ما تم ترسيمه سابقا للحدود البرية منذ سنوات الهدنة مع الجانب العربي الفلسطيني. نقاط محدودة لا تتجاوز مساحتها نصف مليون متر مربع إيذاناً بتسوية شاملة بحرية وبرية. حرب أوكرانيا سرَّع ولادة هذه الاتفاقية نتائجها الآن منحت استقرارا شاملا في المنطقة والإقليم وأتاحت المباشرة فعليا في التنقيب والكشف عن الغاز والنفط عند الشواطئ اللبنانية. الخروقات الإسرائيلية التي تحدث مؤخرا برا وبحرا في الجنوب اللبناني ليست سوى مناوشات محدودة لا تؤدي إلى اندلاع حرب فعلية. خرق الأجواء اللبنانية شمالاً بطائرات العدو الإسرائيلي في ضرب المواقع العسكرية بصواريخها في داخل الأراضي السورية والتي أصبحت مساحتها تمثل 65% من المساحة الكلية الجغرافية التي تقع تحت سلطة الدولة السورية.
لا يمكننا الخوض في هذا الحديث عن هذا الخطر الثاني الذي يهدد مباشرة الوجود اللبناني هذا النزوح السوري من الداخل السوري إلى الأراضي اللبنانية دون معرفة اسبابه الحقيقية وما يجري في الداخل السوري. يعد هذا النزوح خطراً مباشراً للأمن القومي اللبناني وحين نتحدث عن الخطر، أي بمعناه السياسي الاجتماعي والاقتصادي على لبنان، دون الدخول في متاهات نظرية المؤامرة.
من الطبيعي أن الفترة الزمنية التي عانتها سوريا من الحرب الأهلية تفوق أي تصور. القمع العسكري الذي مورِسَ على شعب أعزل كفيل أن يقضي على جميع مقومات الحياة الطبيعية للمواطن السوري. ناهيك عن احتلال فعلي من قبل دول أجنبية تحتل حوالي 35% من مساحة سوريا النظامية، حيث وضعت أميركا يدها على النفط والغذاء في شمال شرق سوريا. إلى جانب دول أخرى مثال تركيا، بريطانيا، إيران وميليشيات الحرس الثوري الإيراني بما فيهم حزب الله اللبناني. آخرها روسيا الاتحادية بقاعدتها طرطوس البحرية والقاعدة الجوية حميميم برزتا بطلب رسمي من الحكومة السورية.
هذا بالمفهوم العسكري أما عن المفهوم السياسي والاقتصادي فمنذ صدور القرار الأممي رقم 2254 الذي لم يطبق من قبل النظام السوري وإن الدول المانحة لإعادة إعمار سوريا تحتاج مبلغ بحوالي ألف مليار دولارا أمريكيا. جميع هذه الدول تصرّ أولا على تطبيق القرار السياسي لحفظ حقوق الشعب السوري حتى يبدأ بالإعمار فعليا. أما عن قانون قيصر المدرج على سوريا جعل من الوضع الاقتصادي السوري أكثر تدهورا في سوريا. كل هذه الأسباب كانت حافزا إضافيا لبدء الهجرة الثانية إلى لبنان من الداخل السوري حتى بلغ رقماً قياسيا من مليوني نازح سوري، إن عدد الطلاب السوريين 700,000 طالب سوري يشاركون الطلاب اللبنانيين على مقاعدهم الدراسية والذين صعب عليهم، أي الطلبة اللبنانيين، الالتحاق بمدارسهم لأسباب مالية وذلك في نقص بكوادر معلمين يؤمن لهم سبل العيش الكريم.
يقدر متوسط سكان سوريا الآن بـ 25 مليون نسمة، يوجد حاليا في المخيمات على حدود الأراضي السورية والبلاد المتاخمة لها في تركيا والأردن ولبنان بمجموع يقدر بستة ملايين نسمة. ثلاثة ملايين نسمة أخرى في بقية البلاد العربية والدول المنتشرة أي بمجموع تسعة ملايين نسمة. أي أكثر من ثلث الشعب السوري نازح خارج عن بلاده لأسباب عسكرية، سياسية واقتصادية قائمة. رأس النظام الحاكم صرح بوضوح إلى الإعلام أن لا عودة قبل إعادة إعمار البنية التحتية وخلق المناخ الملائم والآمن لعودة كل النازحين.
في المقابل المجتمع الدولي والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) تصرّ بأن لا عودة آمنة إلا بتطبيق القرار الأممي السياسي 2254 لحفظ حقوق الشعب السوري. في ظل هذا التناقض في المواقف من الجانب السوري والمفوضية، على لبنان أن يختار سبيلا آخراً وملائما لما يجري على أرض الوطن. لذا على الحكومة اللبنانية مجتمعة بجميع وزرائها أن يضعوا خطة أمنية شاملة تأخذ بالاعتبار تلك الظروف وتتصدى لهذا النزوح الممنهج على أن يؤخذ قراراً بالإجماع يسهل على جميع القوى الأمنية بجميع فروعها بمؤازرة الجيش اللبناني في العمل على زيادة الرصد والمراقبة للحدود المتاخمة، ومسح شامل من قبل البلديات في لبنان وتعاون من قبل المجتمع المدني. القيام بالإجراءات اللازمة والضرورية لتخفيض ومنع هذا النزوح بشتى الوسائل السلمية المتاحة دون المساس بكرامات الشعب السوري الشقيق. على الدبلوماسية السياسية في الحكومة أن تنسِّق مع الحكومة السورية بشتى الطرق والتعاون لإيجاد حلول حول الشأن الإنساني للطرفين السوري واللبناني معا وبوضع الخلافات الشخصية جانبا. على الحكومة اللبنانية أيضاً التوقف عن ممارسة كل مظاهر الدبلوماسية الحالية مع المفوضية والدول الكبرى وأن تأخذ بعين الاعتبار هذا التغيُّر الديموغرافي في لبنان وقد أصبح 37% من سكان لبنان من التبعية السورية. إلى الأبواق التي تصدر بلسان أحد النواب في المجلس النيابي، في المناطق اللبنانية كل يوم، بتحميل الجيش مسؤولية هذه الفوضى من النزوح بأن تكف عن تناول الجيش اللبناني ورئيسه عماد الوطن الوحيد وهي المؤسسة الوحيدة في لبنان لم تغلق بعد أبوابها أمام الشعب اللبناني الذي بدون هذه المؤسسة لا مكان للوطن. علما أن الجيش اللبناني ضبط حوالي 25,000 نازح سوري عبر الحدود السورية اللبنانية غير الشرعية.
أما الخطر الثالث، القنبلة الموقوتة على الأمن القومي في لبنان، مخيم عين الحلوة في مدينة صيدا عاصمة الشتات الفلسطيني، ما هو إلا مخيم أشبه بمخطوف على بقعة صغيرة في لبنان مكتظة بالسكان من مختلف الجنسيات والانتماءات السياسية. ملجأ آمن للمجرمين الهاربين من سقف العدالة. صراع عربي يدور بين الفصائل الفلسطينية لأسباب عديدة في المخيم بدون أفق. بؤرة لها محاذير كثيرة أقلها زَجْ الجيش اللبناني في معارك جانبية هو في غنى عنها كليا ولا تزال ذكريات نهر البارد في أذهان اللبنانيين جميعا، كأنها حدثت بالأمس القريب. السؤال المطروح هنا من هو المستفيد الأول من هذا الصراع؟ أليس هو العدو الإسرائيلي؟ ومن المتضرر الأكبر؟ أليس هو الشعب الفلسطيني على مذبح الحريات في الساحة اللبنانية؟
مما تقدم، تلك هي أهم الأخطار الثلاث المحدقة على لبنان. السؤال هنا هل سيصمد لبنان أمام كل هذه الأخطار حتى النهاية؟ ويظل المفتاح الوحيد لانتظام الحياة السياسية في لبنان هو انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية سريعا. في ظل عدم وضوح نتائج مرحلة المندوب الفرنسي مسيو لودريان فقد شارفنا على مرحلة تقدم الترياق القطري بعد شقَّ طريقه للبحث عن الحلول، آملين ألا تصل إلى نتائج شبيهة بدوحة رقم واحد. ومن يدري بأن الحل في مكان آخر مرتهن في ظل أيادي أمريكا وإيران؟
حمى الله لبنان واللبنانيين.
الكاتب: المهندس شفيق ملك
المصدر: سفير الشمال


Related Posts


Post Author: SafirAlChamal