يوم الجمعة في التاسع عشر من شهر أيار عام 2023، استطاعت مدينة جدّة، عروس البحر الأحمر، أن تستقطب أنظار العالم بأسره وأن تحظى برؤى جميع الدول العربية تحت عباءة مجلس الجامعة، المترهِّل لسنين عابرة، فأيقظته من غفوته، نفحته بروح متجددة وبثَّت فيه آمال الشعب العربي المبعثرة.
هكذا انعقد مؤتمر جدة الـ 32 بعد أن غصَّت صالات فندق الكارلتون ريتز الواسعة بالوفود العربية والأممية من مختلف أصقاع الأرض معلنة: وحدة الصف العربي، وقف الاقتتال في مختلف ساحاته، إرساء الثوابت والتعاون الاقتصادي بينها، والعمل معا في حل كافة القضايا المنتشرة في كل قطر عربي دون مبالغة، علَّ وعسى أن يصبح شعار إعلان جدة فعلياَ مؤتمر الحلول وتصفير المشاكل العربية.
المملكة العربية السعودية بذلت جهدا كبيرا في سبيل التوصل إلى هذه النتائج المذهلة خلال السنتين الماضيتين التي حفلت بمحادثات مباشرة بين الأطراف المعنية في أماكن مختلفة من دول الإقليم.
جرت المفاوضات جميعها بهدوء وتروي دون اللجوء إلى أي تسريب فجاء هذا العامل الرئيسي بنتائج باهرة.
تخلل تلك المفاوضات عدة مؤتمرات لا تقل أهمية ولازمها لجان تمهيدية مختلفة في مدينتي الرياض وعَمَّان.
مهام هذه اللجان هو التحضير اللوجستي، التخطيط السياسي بشتى أبعاده والمتابعة لتقييم النتائج الفعلية على الأرض فأنتجت ثمارها قمتّي بكين وجدَّة.
المملكة وكل من فاوضته من دول معنية توصلوا إلى حقيقة ملموسة وهي أن لا حلَّ للنزاعات القائمة والحروب الصغيرة الدائرة في الإقليم والجوار إلاّ عن طريق التفاوض المباشر والحوار. فكان القاسم المشترك هو إحلال السلام بالمنطقة ووقف الاقتتال الدائر عن طريق الواسطة، استبدلت جميعها بحوافز أخرى أهمها:
التبادل التجاري في سبيل إنعاش بلدانهم والجوار لتمكينها من إرساء حياة اجتماعية وعناية طبية أفضل، السعي إلى تنمية اقتصادية، زيادة في الموارد الغذائية وحل مشكلة شحّ المياه التي يشوبها مشاكل أساسية والتي يعاني منها العراق، مصر، السودان ولبنان بالنظر لما لديه من هدر من تلك الطاقة. وسط أجواء تفاؤلية وتوافقية على نبذ الخلافات واللجوء إلى طاولة الحوار، جاء بيان جدة بتوافق عربي تاريخي حول ضرورة التعاون لحل قضايا العرب المشتركة بروحية جديدة أساسها الصبر، الصدق والتخلي عن الأنانية. حمل البيان الختامي بنودا عديدة شملت القضايا الساخنة وعلى رأسها:
ـ قضية فلسطين ودعم المبادرة العربية لحل الدولتين والقدس الشرقية عاصمة لها. كثيرون راهنوا بأن المملكة في طريقها إلى التطبيع مع إسرائيل، فجاء الرد حاسما ببيان جدة الختامي وعلى رأس بنوده قضية الشرق الأوسط منذ أيام النكبة عام 1948 أي العودة إلى جميع القرارات العربية السابقة وذات الصلة منذ أيام نكسة عام 1967، بقرار مجلس الأمن 2334 عام 2016، قرار 1850 عام 2008 وإلى مبادرة السلام العربية عام 2002.
وسقط الرهان على أن المملكة وراء التطبيع كسائر بعض الدول العربية، وبدأ العد العكسي نحو إعادة التركيبة العربية من خلال مجلس الجامعة بعد توحيده وتقوية الموازين الدولية التي تبنَّتها المملكة بسياستها الجديدة وبصياغة عدة اتفاقات دولية مع الصين وروسيا وتفاهمها مع الولايات المتحدة الأمريكية والتي لم تنقطع بعد جسورها منذ قيام المملكة.
ـ الاقتتال في السودان.
يتميز السودان بموقعه الجغرافي المحيط به برَّا سبع دول إفريقية وعربية تبلغ حدوده البحرية المطلَّة على ساحل البحر الأحمر بطول 670 كلم.
هذه الحدود المشتركة الواسعة تجعله أرضاً خصبة للإرهاب، لا سيما قارة أفريقيا حاوية للتطرف الإرهابي. السودان غني جدا بموارده وثرواته الطبيعية مما جعله أحد محاور التنافس بين الدول وطبقاً شهياً للجميع.
برعاية سعودية أمريكية، استطاعت المملكة التوصل إلى اتفاقية تفاهم وقِّعت بين الأطراف المتنازعة في مدينة جدة أبرز بنودها: الحفاظ على سيادة واستقلال البلاد ووحدة أراضيها ورفض التدخل في شؤونها الداخلية، الحفاظ على المؤسسات، وقف إطلاق النار، إيصال وتوزيع المساعدات الطبية والغذائية. مدة هذه الاتفاقية أسبوع قابلة للتمديد.
في هذا السياق أطلق مستشار رئيس جنوب السودان قوله “نثمِّن الجهود السعودية في حل الأزمة السودانية”. بالمقابل أشادت الولايات المتحدة الأمريكية بما بذلته المملكة لإيصال وإبرام اتفاق وقف إطلاق النار وإدخال المساعدات إلى مستحقيها من المواطنين السودانيين. كما نوّهت بدور السعودية في إجلاء عدد كبير من المواطنين من مختلف الجنسيات من العاصمة الخرطوم إلى بورتسودان ومن ثم إلى جدة عبر البحر الأحمر.
ـ الأزمة اليمنية.
استمرار تطبيق بنود الهدنة القائمة، التمسُّك بوحدة وسيادة البلاد، تأكيد استمرار دعم الحكومة اليمنية الشرعية بقيادة مجلس القيادة الرئاسي وتعزيز دوره، العمل على تطبيق قرار مجلس الأمن الخاص باليمن رقم 2216 لعام 2015.
ـ عودة سوريا الى الجامعة العربية.
إن عوامل الطبيعة ساعدت كثيرا في الإسراع بالتقارب العربي السوري بسبب وقوع الهزة الأرضية التي ضربت تركيا وسوريا هذا العام. أدّى ذاك إلى تعاطف وتكاتف الرأي العام العربي كله بمدّ يد المساعدة للشعب السوري والتركي. نتج عن ذلك فتح جميع القنوات السياسية فتجاوَزَت معظم الدول العربية قطيعة سوريا التي دامت 12 عاماً. وجاء في البيان الختامي وجوب التمسُّك بوحدة الأراضي السورية والحفاظ على سيادتها والحثّ على تقديم المساعدات الإنسانية، لخروج سوريا عن عزلتها ومن أزمتها مع تحقيق شامل لإنهاء معاناة الشعب السوري، حسب توصيات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بقرار رقم 2254 المتخذ بالإجماع في 18 ديسمبر عام 2015 والمتعلق بوقف إطلاق النار والتوصل إلى تسوية سياسية في سوريا.
ـ الملف اللبناني.
دعوة إلى الإسراع في انتخاب رئيس للبلاد وتشكيل حكومة بأقرب وقت مع إجراء الإصلاحات الضرورية لخروج لبنان من أزمته الراهنة.
جاء البيان الختامي على توصيات منها:
الحرص السعودي على استقرار المنطقة، إدانة الميليشيات والكيانات المسلحة خارج نطاق الدولة، عدم التدخل في شؤون الآخرين، توحيد المواقف في علاقات الدول العربية بمحيطها الإقليمي والدولي، إدانة كل أشكال العمليات الإرهابية في العالم العربي وفي كل من الصومال، العراق وليبيا والتأكيد على سيادة دولة الإمارات على جُزُرِها الثلاث.
أشاد البيان أيضا بما توصلت إليه اتفاقية القرن في بكين بين إيران والمملكة، على أن يتم استكمال جميع الخطوات المتبقية لإنجاح كافة بنود الاتفاقية.
عقب البيان الختامي انكبَّ رجالات الصحافة العالمية والعربية بأسئلة أجاب عنها بذكاء وحجة كلٍ من وزير الخارجية السعودي وأمين عام جامعة الدول العربية. أبرز هذه الأسئلة، سؤال حول ملف سوريا، عن كيفية تطبيق بنود الاتفاقية، فكان الجواب صريحاً واضحاً “هذا الأمر يستدعي العمل بآلية واحدة وهي تطبيق قاعدة خطوة يقابلها خطوة”.
هناك مفارقات ومواقف من بعض الدول العربية حول عودة سوريا إلى الحضن العربي إلى جانب إصرار أمريكا ودول أوروبا الغربية على الاستمرار بتطبيق قانون قيصر الخاص بسوريا. في هذا الإطار توصلت المملكة بحكمة إلى رأب الصدع ما بين سوريا وقطر ودول عربية أخرى وذلك بتصريح بارز من وزير الخارجية القطري الذي قال “لا نريد الخروج من الإجماع العربي”، وبمصافحة بين كل من أمير قطر والرئيس السوري خلال المؤتمر.
حضور الرئيس الأوكراني زيلينسكي وإلقائه كلمة معبرة عن بلده في المؤتمر، أدهش جميع رؤساء الدول الحاضرين، قابل ذلك برقيات تأييد من كل من الرئيسين الروسي والصيني تعبيراً عن استعدادهما للمشاركة في حلّ أزمات المنطقة والإقليم. كذلك دعمت الولايات المتحدة المملكة في صياغة اتفاقية وقف الاقتتال في السودان ضمن بيان القمة الختامي في مدينة جدَّة.
حقاً إنها قمة توازن القوى الدولية وتضميد الجراح العربية، بل إنها أقرب إلى قمة فريدة لأمير استثنائي أنجز هذا النجاح هو سمو الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي حتى تُضاء وتتلألأ في سماء المملكة رؤية عام 2030 في المستقبل القريب.
الكاتب: المهندس شفيق ملك
المصدر: سفير الشمال
Related Posts