خاص ـ سفير الشمال
يصدح صوته ويتردد صدى طبلته، ليخترق سكون ليالي رمضان في المدن اللبنانية التي ما تزال تتمسك بهذا التقليد من طرابلس الى بيروت فصيدا وغيرها من المناطق التي بات المسحراتي فيها يشكل حنينا للموروثات الرمضانية أكثر بكثير مما هو حاجة ماسة للاستيقاظ على السحور في ظل التطور والتكنولوجيا بوجود المنبهات الالكترونية والهواتف الخليوية.
ثمة صراع واضح بين المسحراتي بما يحمل من معاني رمضانية تراثية، وبين التطور التكنولوجي الذي يفرض نفسه على الناس، لكن التقليد في زمن رمضان يفرض نفسه على ما عداه، فبالرغم من أن أكثرية الناس تبقى مستيقظة الى أوان السحور، وبالرغم من كل الوسائل المنبهة المتاحة للنهوض من النوم، يبقى لمسحراتي رمضان نكهة خاصة ومميزة لا يمكن الاستغناء عنها.
مع الليلة الأولى من ليالي الشهر الفضيل وحتى ليلة إثبات رؤية هلال عيد الفطر السعيد يجول المسحراتي في الشوارع والأحياء والأزقة بهدف إيقاظ النائمين ودعوة الناس الى تناول طعام السحور، مطلقا العنان لصوته في مدح الرسول وآل بيته.
ومع إتساع المدن وزيادة عدد السكان بات هناك العديد من المسحّرين، كل منهم يهتم بمنطقة محددة، ويسحّر فيها وينادي على وجهائها بالأسماء.
كان الصحابي الجليل بلال بن رباح (الحبشي) أول مسحر في التاريخ الاسلامي الذي يذكر أن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) طلب منه أن يقوم بمهمة إيقاط النائمين في رمضان على السحور كونه كان صاحب صوت جميل وكان مؤذن الرسول.
ومنذ ذلك الوقت والمسلمون يكلفون من يقوم بإيقاظهم على السحور، لكن هذا الأمر تراجع شيئا فشيئا، الى أن حرصت السلطنة العثمانية على إعادة إحياء ما حرص عليه الرسول الكريم محمد، فكان الاهتمام بهذا الأمر مباشرة من السلطان الذي كان يمنح فرمانا لكل من يريد العمل كمسحراتي، وقد حصل العديد من المشايخ على فرمانات من هذا النوع صادرة عن السلاطين وما تزال عائلاتهم تحتفظ بها وتمارس مهمة التسحير والوداع حتى يومنا هذا.
يتولى التسحير في طرابلس منذ عقود طويلة عائلات: القدوسي، الغندور، المغربل اللوزي، الزاهد، والمزقزق وعثمان، وكانت تلك العائلات تعمل باشراف دار الفتوى.
أما حاليا وبعد الكثافة السكانية التي فرضت نفسها والتوسع العمراني الذي يرافقها، تحولت عملية التسحير الى مهنة رمضانية يسارع إليها البعض لكسب المال، لأن من يقوم بالتسحير، يخرج في الأيام الأخيرة من رمضان بفريق يسمى “الوداع” وهو أيضا موروث عثماني، فيجول على المنازل لتوديع الشهر الفضيل وينشد الموشحات ويقرع الطبول ويجمع المال من المواطنين، لذلك فقد ازداد عدد العاملين في هذه المهنة المؤقتة في رمضان حتى داخل المنطقة الواحدة، الأمر الذي يدفع أبناء العائلات “المأذونة” بممارسة هذه المهنة وهي تمتلك فرمانات عثمانية الى رفع الصوت مطالبة دار الفتوى بتنظيم هذا القطاع لكي لا تؤدي العشوائية المسيطرة عليه الى إندثاره..
Related Posts