صادمٌ كان التقرير الذي نُشر مؤخّراً حول الهجرة من لبنان، والذي أظهر أن 230 ألفاً هاجروا من البلاد في الأشهر الأربعة الأخيرة من العام الماضي، وهو رقم اعتبر هائل بكلّ المقاييس إذا ما قورن بعدد السكّان الذي يُقدّر بنحو 5 ملايين نسمة.
وأظهر التقرير أنّ الهجرة طالت قطاع الأعمال والتجارة، حيث أنّ هناك مجموعة كبيرة من الأشخاص ممّن نقلوا أعمالهم إلى خارج لبنان نتيجة إنعدام الحاجات الأساسية كالكهرباء والماء وغياب الأمن، إضافة إلى أزمة الأموال والمصارف، مضيفاً بأنّ 90 % من اللبنانيين الحاملين لجنسيات أجنبية غادروا لبنان خلال شهر أيلول الفائت، وأنّهم هاجروا بشكل نهائي.
وذكّر التقرير أنّ لبنان شهد موجتي هجرة كبيرتين سابقتين، الأولى من أواخر القرن 19 وحتى الحرب العالمية الأولى (بين عامي 1865 – 1918)، حيث هاجر خلالها نحو 330 ألف شخص. أمّا الموجة الثانية فكانت خلال الحرب الأهلية (1975 – 1990)، التي سجّلت هجرة حوالي 990 ألف شخص.
ومع أنّ موجة الهجرة الثالثة الحالية لم تنتهِ بعد، فإنّ التقرير أورد 3 مؤشّرات مقلقة متعلقة بها، أولها إرتفاع الرغبة بالهجرة عند الشباب اللبناني، حيث أشار إلى أنّ 77% منهم يفكرون بالهجرة ويسعون إليها، وهذه نسبة تعتبر الأعلى بين كلّ البلدان العربية؛ والمؤشّر الثاني هو هجرة الكفاءات والمهنيين، خاصة العاملين في القطاعين الصحّي والتعليمي؛ والمؤشّر الثالث هو توقّع طول أمد الأزمة اللبنانية، لأنّ البنك الدولي يُقدّر أنّ لبنان يحتاج في أحسن الأحوال إلى 12 عاماً ليعود إلى مستويات الناتج المحلي التي كانت في عام 2017، وبأسوأ الأحوال إلى 19 عاماً.
هذا التقرير تزامن مع صدور تقرير عن الأمم المتحدة في شهر أيلول الماضي، أشار إلى أنّ 74 % من سكّان لبنان يعانون من الفقر في العام 2021، ما يدلّ على حجم الأزمة وعمقها التي يعانيها بلد صغير بحجمه وسكّانه، لكنه كبير جدّاً بأزماته.
ماذا تعني هذه الأرقام، وما دلالاتها؟ هي تعطي بكلّ بساطة إنطباعاً قاتماً عن مستقبل البلد في السّنوات المقبلة، وتنذر بأنّ الآتي سيكون أسوأ على جميع الصعد، خصوصاً لجهة تفريغ البلد من طاقاته البشرية، وأنّ لبنان تنتظره مرحلة صعبة لن يكون خلالها قادراً على الخروج منها بسهولة، نظراً لافتقاره خلالها إلى مقومات الصمود بمواجهة الأزمات والنهوض بالواقع الصعب، أيّ أن لبنان يحتاج عملياً إلى معجزة للخروج من مستنقع الأزمات العديدة التي يغرق فيها منذ سنوات، في زمن لم يعد فيه للمعجزات وجود.
كلّ ذلك يحصل بينما الدولة والسلطة السّياسية غائبتان عن السّمع، وتتابعان حياتهما وكأنّ شيئاً لا يحصل، متجاهلة هذه الأزمات التي تغرق فيها البلاد والعباد، من غير أن يبادرا إلى القيام بالحدّ الأدنى من واجبهما، تجاه شعب يُفتقر ويجوع ويُسرق وينهب .. ويُهجّر، على مرأى ومسمع من المسؤولين كافة، الذين يتعاملون مع هذه الأزمات الوجودية التي تهدد لبنان وكأنّ الأمر لا يعنيهم.
Related Posts