ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، قداسا احتفاليا في كنسية سيدة ايليج سلطانة الشهداء ميفوق – القطارة قضاء جبيل، بدعوة من رابطة سيدة ايليج، بعنوان “لا تسكتوا عن نسيان الشهداء” تكريما لشهداء المقاومة اللبنانية، ولمناسبة مرور 25 سنة على تأسيس الرابطة، عاونه فيه راعيا أبرشيتي جبيل المارونية المطران ميشال عون والبترون المطران منير خيرالله ورئيس دير سيدة ميفوق الاب يوسف متى، وشارك فيه النائب فادي سعد، رئيس لقاء سيدة الجبل النائب السابق فارس سعيد، النائب السابق سامر سعادة، رئيس بلدية ميفوق القطارة هادي الحشاس، مختارا ميفوق والقطارة انطوان سلامة وكمال الحشاش، رئيس رابطة سيدة ايليج سعود أبو شبل والاعضاء وأهالي الشهداء وحشد من المؤمنين.
عون
بداية، ألقى المطران عون كلمة رحب فيها بالبطريرك الراعي في الابرشية التي خدمها لسنوات طوال، مثمنا الشهادة من أجل حرية واستقلال وسيادة الوطن، وأمل أن “تحمل الايام المقبلة الحلول للمشاكل التي يرزح تحت وطأتها الشعب اللبناني”، مؤكدا “أهمية أن تبقى ثقتنا بوطننا كبيرة”.
العظة
بعد الانجيل المقدس ألقى البطريرك الراعي عظة بعنوان “هل تستطيعان أن تشربا الكأس التي أشربها أنا؟ وأن تتعمدا بالمعمودية التي أتعمد بها أنا؟” (مر 10: 38) وقال: “الكأس التي شربها يسوع تعني صلبه، وقد سماه كأسا لأنه شربها بملء إرادته، على ما نقرأ في الرسالة إلى العبرانيين (راجع 12/ 2). والمعمودية التي يتعمد بها يسوع تعني موته الذي ولجه بكليته وغسل بدمائه خطايا العالم، كما نقرأ في رسالة القديس بولس إلى الرومانيين: أو ما تعلمون أننا نحن الذين اعتمدنا بيسوع المسيح، إنما بموته اعتمدنا؟ وبعمادنا بموته، دفنا معه؟ (روم 6/ 3-4).
إن نبوءة يسوع عن مشاركة يعقوب ويوحنا في شرب كأسه، والإعتماد بمعموديته تكشف مصير الإضطهاد والاستشهاد الذي خضعا له بعد العنصرة وحلول الروح القدس. فيعقوب مات شهيدا، ويوحنا منفيا في جزيرة باتموس”.
أضاف: “شهداء المقاومة اللبنانية الذين نحيي اليوم ذكراهم السنوية الخامسة والعشرين، في هذه الليتورجيا الإلهية، شربوا كأس الوطن بما تحملوا من آلام في أجسادهم ونفوسهم، واعتمدوا بمعمودية الوطن باستشهادهم من أجل حمايته وبقائه وكرامته وسيادته. نلتمس لهم من الله إكليل المجد في السماء، ولعائلاتهم العزاء، ولرفاقهم العزم على مواصلة المقاومة اللبنانية الحضارية السلمية، والصمود بقوة الإيمان والرجاء، على مثال بطاركتنا القديسين الذين قادوا هذه المسيرة في إيليج كما في يانوح وهابيل وكفرحي وعمشيت وقنوبين والديمان وبكركي وفي المقار البطريركية التي كانوا يلجأون إليها بحسب ظروف العهود، وعروشهم على ظهورهم.
ونود أن نوجه التحية إلى رابطة سيدة إيليج التي تدعو إلى هذه الذبيحة الإلهية ككل سنة، والذكرى اليوم بلغت يوبيلها الفضي. كما نحيي رئيس دير سيدة ميفوق وجمهور الآباء، شاكرين تعاونهم مع رابطة سيدة إيليج لإنشاء غابة شهداء المقاومة اللبنانية، وتسمية سيدة إيليج سلطانة الشهداء. ونشكر من خلالهم الرهبانية اللبنانية المارونية الجليلة التي حافظت عبر القرون على هذا المقر البطريركي المقدس، واستقبلت في محيطه أضرحة شهداء المقاومة اللبنانية”.
وتابع الراعي: “إختارت الرابطة موضوعا لهذا العام: خمس وعشرون سنة لم نسكت فيها عن نسيان الشهداء، ونعم الاختيار. فالذاكرة التي تعني عدم النسيان ضرورية للغاية من أجل جعل إراقة دماء الشهداء لا مجرد ذكرى لماض حدث، بل حاضرا يتفاعل في ضمائرنا جيلا بعد جيل، ويعطي دماءهم ثمنها الغالي، إذ ماتوا لنحيا وفقا لآمالهم. عندما أسس ربنا يسوع المسيح، ليلة آلامه وموته، سر القربان بتقدمة ذاته ذبيحة فداء لمغفرة الخطايا، ووليمة روحية لحياة العالم، أمر كهنة العهد الجديد قائلا: “إصنعوا هذا لذكري” (لو 22: 19-20). فكانت الذكرى في آن تذكارا لماض، وتحقيقه في الحاضر، واستمراريته في المستقبل حتى مجيئه الثاني بالمجد (راجع 1 كور 11: 26)”.
ولفت الى أن “الشهداء يحيون كلما تابعنا المسيرة الوطنية، من أجل السيادة والاستقلال وحرية القرار. لا تخافوا ولا تيأسوا، فكل ما ترونه اليوم مرحلة صعبة وتمضي، بالصلاة والصمود، بحسن الخيار والتمسك بالثوابت، بوحدة الصف والعمل الوطني الدؤوب، بتغيير الواقع بالوسائل الديموقراطية، برفض الهيمنة. إن مسيرة التغيير التي بدأت مع الانتفاضة الشعبية مستمرة. منذ اتفاق الطائف، في بداية التسعينات، والدولة تعد الشعب بمعالجة الأزمات التي تسببت بالصراع الوطني والحروب، لكن الأزمات ازدادت، والصراع الوطني تعمق، والولاء للبنان انحرف حتى دخلنا عتبة الانهيار. لذلك، إن مطالبتنا بمعالجة واقع الانهيار يهدف إلى المحافظة على وحدة لبنان وهويته لأن تفاقم الوضع صار يشكل خطرا عليهما”.
وقال: “أمام أضرحة شهدائنا، وغابة أرزهم المهيبة والناطقة، نتذكر أن ما حققه آباؤنا وأجدادنا والجيل المقاوم، كان بعرق الجبين ودم الشهداء، بالصمود والمقاومة، بالعلم والإبداع. لم يقاتل أحد عنا. العمالة ليست من مكونات الشخصية التاريخية المسيحية في لبنان. من يقاوم ويستشهد في سبيل قضية لا يتقبل العمالة وتعددية الولاءات. ومن يسترجع التاريخ، القديم والحديث، يكتشف أن المسيحيين في لبنان، وبخاصة الموارنة، ما تعرضوا للحروب والاضطهاد إلا لأنهم رفضوا العمالة والخضوع وآثروا الصداقة والتحالف على أسس الكرامة الشخصية والسيادة الوطنية”.
وأضاف: “لقد شكرنا الله على خروج لبنان من أزمة الحكومة التي استمرت ثلاثة عشر شهرا، وعلى تشكيل حكومة جديدة اتخذت شعار: “معا للانقاذ”. إننا إذ نجدد لها تمنياتنا بالنجاح، نأمل أن تعمل كفريق وطني واحد يعكس وحدة الدولة لوقف التدهور، والتصدي للعمليات المتواصلة لضرب هيبة الشرعية وكرامة الدولة ككل والمس بنظامها الديموقراطي الليبرالي. فلا يمكن أن تستقيم الدولة اللبنانية مع ممارسات أو مواقف تتنافى وكيانها ومؤسساتها، ويسمونها بكل بساطة نقاطا خلافية، وكأن حلها غير ضروري، من مثل حياد لبنان وعدم انحيازه، وتصحيح الممارسات المنافية للدستور واتفاق الطائف، والطريقة التي تم فيها إدخال صهاريج المحروقات بالأمس القريب، وإعاقة التحقيق في جريمة انفجار مرفأ بيروت والتشكيك الممنهج بقاضي التحقيق، كأن المطلوب إيقاف التحقيق في أكبر جريمة”.
وختم الراعي: “ما يعزز أملنا هو أن الظروف الداخلية والإقليمية والدولية التي استولدت هذه الحكومة تسمح لها بالقيام بالملح الذي يحتاجه الشعب منها، وهو على الأخص:
– إجراء الإصلاحات في الهيكليات والقطاعات، واستنهاض الحركة المالية والاقتصادية والمصرفية.
– تأمين العام الدراسي، بكل ما يلزمه، ودعم المدرسة الخاصة على غرار الرسمية فلا يدفع المواطن ضريبتين.
– حل أزمة المحروقات والكهرباء، وإغلاق معابر التهريب على الحدود اللبنانية – السورية، ومكافحة الإحتكار والتلاعب بالأسعار.
– معالجة قضية برادات التفاح منعا من إتلافه.
– إنتشال لبنان من سياسة المحاور إلى رحاب الحياد في إطار لبنان الواحد، واللامركزية الموسعة.
– دعم القضاء اللبناني لينجز التحقيق في جريمة تفجير مرفأ بيروت، بحيث يتم وفقا للقوانين ومستلزمات العدالة، ولا أحد أغلى من دماء الشهداء، ودموع الأهل، وآلام الجرحى والمعوقين، وعاصمة لبنان بيروت.
– إننا نبتهل إلى الله، بشفاعة سيدة إيليج وسلطانة الشهداء، لتتمكن هذه الحكومة من أن تشق طريقها وتعالج القضايا الملحة، وأن تعيد الحياة إلى علاقات لبنان العربية والدولية، وتقدم موحدة على التفاوض مع الدول والمؤسسات المانحة، إذ يصعب أن يستعيد لبنان دورته الحياتية والاقتصادية والمصرفية، ويخرج الشعب من الإذلال اليومي من دون مساعدات خارجية سخية”.
ابو شبل
وبعد القداس ألقى أبو شبل كلمة الرابطة قال فيها: “25 سنة لم نسكت فيها عن نسيان الشهداء لكأن صدى كلماتك أبينا البطريرك يتردد في هذا الوادي المقدس منذ ربع قرن، كان صدى كلماتك يتردد مع تنهدات كل أم شهيد أمعنوا في تشويه شهادة إبنها، مع غصة كل أب شاهد إبنه يساق إلى السجن كالمجرمين، مع إعتقال كل مقاوم رفض الإذعان للمحتل، مع كل صرخة ألم أطلقها المقاومون تحت التعذيب، مع غضب الشهداء الذين طاولتهم يد القمع في رقادهم، فخلعت أبواب مساكنهم الأبدية وانتهك رفاتهم”.
أضاف: “حال من الإحباط كاد أن يلامس اليأس أصاب مجتمعنا، فكان خيارنا أن نشهد ونقاوم، نقاوم اليأس والعوز والإعتقالات والتعذيب، وأن نشهد بالكلمة، بالعلم، بالقيم، بالعرق والصبر، فنحن أبناء الرجاء والقيامة، سلاحنا الإيمان بالرب يسوع الذي قال لنا: لا تخافوا أنا معكم، ومن هذا الدير وبرعاية سلطانة الشهداء سيدة إيليج، صدحت صرخات الحرية والوفاء وأطلق العهد:”إن ننسى لن ننسى”.
الدولة التي أرعبها قداس العام 2000، أقدمت في العام 2001 على اعتقال رفاق لنا، هم بيننا اليوم، وساقتهم إلى المعتقلات والسجون، ووقفوا أمام القضاة كالمجرمين، واتهمتهم بإحياء قداس سيدة إيليج، نعم، أيها السيدات والسادة، الأمر لا يصدق أن تقوم الدولة اللبنانية الممسوكة من الإحتلال والتي ينص دستورها على حفظ حرية المعتقد باعتقال شبان ومحاكمتهم لأنهم يقيمون قداسا لرفاقهم الشهداء. أن نتهم بالوفاء لدماء رفاقنا هو فخر لنا، ووسام شرف علق على صدورنا، ووصمة عار على جبين كل من اتهمنا. وهذا الأمر قد يتكرر إذا لم نقاوم الإحتلال الجديد”.
وتابع أبو شبل: “غبطة أبينا البطريرك، لقد أخطأت قوى سياسية، عن قصد أو عن غير قصد، حين ظنت أن لبنان تحرر بانسحاب الجيش السوري، وأخطأت آنذاك حين تخلت عن روح المقاومة ونهجها ودخلت لعبة تقاسم حصص في مواقع السلطة، وانزلقت إلى تفاهمات ومصالحات وتسويات على حساب المبادئ والقيم، كما على حساب سيادة الدولة على قرارها وأراضيها، فساهمت في ترسيخ احتلال مقنع، سيطر على مؤسسات دولتنا، بواسطة لبنانيين يحملون الهوية اللبنانية ولكنهم في الواقع ينفذون أوامر دول خارجية ويتفاخرون بكونهم جنودها يتلقون منها المال والسلاح، غير مبالين بحياة اللبنانيين الذين باتوا متسولين، وأمست دولتهم مرمية على قارعة الأمم نتيجة لهذا الإحتلال”.
وتابع: “غبطة أبينا البطريرك، السلطة المرتهنة والفاسدة لم يهزها تفجير المرفأ وتدمير نصف العاصمة بيروت، وها هي تحاول إخفاء جريمتها وتساعد المطلوبين للتحقيق في التهرب من الوقوف أمام القاضي برفضها إسقاط الحصانات عنهم، وهي لم تستجب صرخات أهالي الضحايا واللبنانيين كافة المطالبة بالعدالة، كما لم يهزها من قبل نزول آلاف مؤلفة من اللبنانيين إلى الشارع، رافضين هذه المنظومة التي أوصلتهم إلى الحضيض لما قامت به من سرقات، ولم تنفع معها نداءاتكم المتكررة واحتضانكم لمطالب الشعب اللبناني منذ 17 تشرين، فكانت صرختكم الموجهة إلى شعب لبنان، ودعوته إلى التصدي للقوى الإقليمية والمحلية – التي تتبع لها هذه السلطة – بما أوتي من قوة ومهما بلغت التضحيات، فأضحى من الواجب الإنتقال من الثورة إلى المقاومة، لذلك ندعو إلى قيام مقاومة لبنانية حضارية حرة، تتصف بالمحبة والحكمة والجرأة والتواضع، وتضم جميع اللبنانيين على تنوع طوائفهم ومذاهبهم، على قاعدة رفضهم للاحتلال، وفي شكل خاص ناشطي الحراك ومجموعاته، مقاومة تأبى الخضوع للأمر الواقع، وتستلهم مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ووثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك في مناهضتها للاحتلال ومفاعيله، الفكرية، الثقافية، الإجتماعية، الإقتصادية، العسكرية والأمنية. وتعمل معكم في المطالبة بعقد مؤتمر دولي يقر حياد الدولة اللبنانية ويشرف على تطبيق القرارات الدولية”.
وختم: “غبطة أبينا البطريرك، بعد مسيرة خمسة وعشرين عاما من الوفاء للقضية وشهدائها، نجدد العهد أمام سلطانة الشهداء سيدة إيليج، وبالقرب من مدافن رفاقنا بأننا لن ننسى، لن نركع، لن نتزعزع، لن نساوم، لن نهادن، سنقاوم ونقاوم ونقاوم، ولن يهدأ لنا بال قبل أن يتحرر وطننا. وكما طرقنا أبواب رفاقنا حيث يرقدون كي نزف لهم بشرى زوال الإحتلال، هكذا وفي يوم نعمل كي يكون قريبا، سنطرق أبوابهم من جديد ونرش الزهور هاتفين: إندحر الإحتلال ولبنان بخير”.
ثم قلد البطريرك الراعي ميدالية سيدة ايليج الى أهالي شهداء قرطبا في تفجير مرفأ بيروت شربل ونجيب حتي وشربل كرم.
بعد ذلك، بارك الراعي يرافقه المطارنة والكهنة لوحة إيمان وعهد على مدخل مدافن الشهداء، ورفعت صلاة البخور في مدافن شهداء المقاومة اللبنانية.
Related Posts