في نصوص الكتاب المقدس لدى الطوائف المسيحية (العهدين القديم والجديد) جاء النص التالي: “صَوْتٌ سُمِعَ فِي الرَّامَةِ، نَوْاحٌ وَبُكَاءٌ وَعَوِيلٌ كَثِيرٌ. رَاحِيلُ تَبْكِي عَلَى أَوْلاَدِهَا وَلاَ تُرِيدُ أَنْ تَتَعَزَّى”. إرميا النبي (إر 31: 15). (إنجيل متى 2: 18), وليس مهماً أي منطقة هي المقصودة في هذا النص، ولكنها تنطبق بعد الفي عام على المسيحيين في لبنان – الموارنة تحديداً – الذين يستأهلون النواح والبكاء والعويل على ما آلت إليه أحوالهم!
فها هم بعد ثلاثين سنة يستعيدون انقساماتهم الحادة وكأنهم لم يتعلموا شيئاً مما أصابهم من ويلات. في حين ان الثابت هو أمر واحد: أن إثنين من أبرز زعمائهم (العماد ميشال عون رئيس الجمهورية – ورئيس التيار الوطني الحر سابقاً – وسمير جعجع رئيس حزب القوات اللبنانية وبينهما البطريركية المارونية) يتصارعان حتى النفس الأخير، من دون الالتفات إلى العواقب وحجمها ونتائجها.
ففي العام 1990 جرّ الرجلان المسيحيين إلى حرب طاحنة لم تُبْقِ حجراً على حجر في المناطق المسيحية من بيروت الشرقية والمتن الشمالي، فتواجه الأخ مع أخيه حتى فرضت القوى الأقليمية والدولية اتفاق الطائف الذي أسفر عن نفي الأول الى فرنسا لخمس عشرة سنة، وأُدخل الثاني إلى السجن لإثني عشر عاماً، وكانت بكركي ممثلة بالبطريرك الراحل نصرالله صفير نقطة تجاذب بينهما باعتبارها أعلى مرجعية روحية في الطائفة، مع أن كفة ميزانها كانت تميل الى القوات. الأمر الذي سهّل تحميل الطرف الآخر العديد من الموبقات التي أرتُكبت تجاه الصرح البطريركي، وما تزال حتى اليوم ملتبسة التأويل.
وفي العام 2020 سمحت بكركي لنفسها أن تتحول من جامع للمسيحيين تحت قببها، فأجرت مصالحة تاريخية بين جعجع ورئيس تيار المرده سليمان فرنجيه الذي رفض الإدعاء الشخصي في مجزرة إهدن، وكذلك جَمَعَ الصرح الزعماء الأربعة في الطائفة، بانضمام رئيس الجمهورية السابق أمين الجميل إلى لقاءات ركزت على تسهيل الخروج من أزمة الفراغ في كرسي بعبدا. ولكن في صيف العام المشار اليه رغب سيد بكركي في تبديل البوصلة فاتجه نحو “الحياد والتدويل” اللذين أدّيا الى شروخ مؤلمة في الجسم اللبناني، ودفعت بحزب القوات باستنفار أنصاره ومن يلبي النداء من مخلفات 14 آذار، للتوجه الى بكركي من أجل دعم المواقف المستجدة للبطريركية) متناسين جميعاً التجاهل الذي مارسوه تجاه الصرح عندما كان على مسافة واحدة من كل الأفرقاء)، المشهد الذي استعيد عندما كانوا يستخدمون منبر بكركي للتصويب على الإتجاهات المضادة، إلى أن مَنَعَ البطريرك الراعي تلك المسرحية ليعود فيفتح الستائر مجدداً، وبالتالي فان التحركات في بكركي ستكون سلبياتها أكثر من إيجابياتها على الوضع المسيحي وفق معظم المراقبين!
في العام 1990 كان السلاح هو لغة التخاطب الوحيدة. اليوم يكتفي الأفرقاء بالقصف الكلامي الذي يكون أحياناً أمضى من السيوف، ولكن كلام هذه الأيام يتطاير في ظل أزمات مالية ومعيشية واجتماعية وصحية، يترجم خلالها المواطنون على أيام القصف المدفعي الذي كان من السهل الإحتماء منه. في حين أن عواقب أزمات اليوم تحرق الجميع، من دون أن يفكّر أحد باعتماد إقتراحات للحد من الفقر والجوع اللذين باتا يدّقان الأبواب! وقد يجرّ ذلك إلى مؤتمرات دولية أو إقليمية لن تكون في صالح المستقبل المسيحي في هذا الشرق!..
مواضيع ذات صلة: