بعد جمود أرخى بثقله على البلاد، عادت الحيوية السياسية لتسيطر على الساحة اللبنانية، لكنها ما تزال تفتش عن حلول لولادة الحكومة العتيدة التي يبدو أنها تحتاج الى مزيد من الاتصالات والمفاوضات والأغطية الاقليمية والدولية لكي تبصر النور.
بعد خطاب الحريري الناري في ذكرى 14 شباط، وحرص الأمين العام لحزب الله على تبريد الأرضية السياسية بطرح مبادرة “كسر الثلث المعطل ورفع عدد وزراء الحكومة”، إنخفض النقاش الى ما دون سقف التصعيد، فتراجع النائب جبران باسيل خطوات الى الوراء تمثلت بتنازلات أولها إعلان قبوله بسعد الحريري رئيسا للحكومة، وثانيها طرحه لمبادرتين فيهما إيحاء حول تخليه عن الشروط التي وضعها سابقا.
وترى هذه المصادر أن باسيل بالرغم من كل محاولاته لشدّ العصب المسيحي إلا أنه خسر كثيرا بتحويل الصراع من تشكيل الحكومة الى النزاع الطائفي، فأعطى إنطباعا بأن القوى اللبنانية تتحالف مع بعضها البعض ضد المسيحيين وهذا أمر يجافي الواقع، كما أنه لم ينجح في تقديم نفسه حاميا للوجود المسيحي في لبنان كونه على خصومة واضحة مع كل القوى المسيحية التي تنصلت من طروحاته.
وتشير مصادر سياسية أخرى الى أن كل السيناريوهات التي طرحها باسيل تصب في إتجاه واحد هو عدم تشكيل الحكومة، خصوصا أنه حاول ملاقاة السيد نصرالله في عدم حصول أي تيار سياسي بمفرده على الثلث المعطل، لكنه طالب بالثلث زائدا واحدا للتيار الوطني الحر والطاشناق والحزب الديمقراطي اللبناني مستفيدا من طرح نصرالله برفع عدد وزراء الحكومة الى 20 أو 22.
وتلفت المصادر نفسها الى أن كلام باسيل لم يؤخذ على محمل الجد من قبل أي فريق سياسي سواء كان من الخصوم أو من الحلفاء كونه جاء منافيا للواقع القائم من مطالبته المقنعة بالثلث المعطل، الى مقايضة الحكومة بالاصلاح، وبالتالي فهو لم ينجح في إيجاد أي خرق ولو بسيطا في جدار الأزمة، لذلك فهو بعد أشهر من تحريض قيادات وكوادر التيار الوطني الحر على حزب الله وإستهداف تفاهم مار مخايل وإتهامه بأنه “فشل في بناء دولة القانون” وجد باسيل أن عودته الى تحت عباءة حزب الله تشكل الضمانة لتحقيق طموحاته.
في المقابل راوح حديث الرئيس فؤاد السنيورة خلال مقابلته مع قناة الجديد في مربع “اللعم”، وهو بالرغم من بعض إعتراضاته، إلا أنه إفتقد الى شخصيته السياسية الهجومية على إيران وسوريا وحزب إيران، ما فسره مراقبون محاولة منه لتقديم أوراق إعتماده للعودة الى رئاسة الحكومة في حال فشلت مساعي تشكيلها برئاسة الحريري.
ثمة رأيان في النقاش الدائر حول تشكيل الحكومة، الأول يرى أن هناك مؤشرات واضحة لتحريك الملف الحكومي، بدءا من الشائعات التي تحدثت عن لقاءات مفترضة بين الرئيسين ميشال عون والحريري، وصولا الى حراك بكركي التي شهدت يوم أمس إتصالين منفصلين من الحريري وباسيل مع البطريرك بشارة الراعي الذي زاره أيضا مدير عام الأمن العام اللواء عباس إبراهيم وكشف أنه يتولى قسم من الوساطة لتشكيل الحكومة فيما يتولى الراعي القسم الآخر منها.
أما الرأي الثاني، فيرى أن المبادرة الفرنسية أصيبت بعطب، وأن الرئيس إيمانويل ماكرون ألغى زيارته الى السعودية أو آثر تأجيلها لعدم قدرته على تسويق أي حل أو العودة منها بأي ضوء أخضر حول الحكومة، ويلفت أصحاب هذا الرأي الى إستقبال ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد للرئيس الحريري والبحث معه بالملف الحكومي، ما يشير الى إستمرار التجاهل السعودي للملف اللبناني وللحريري على حد سواء.
في الشأن السعودي هناك أكثر من رأي حول الاتجاهات القائمة، الأول أن السعودية قررت إقفال أبوابها بشكل نهائي أمام الحريري الذي تلقى (بحسب مطلعين) دعوة من بن زايد لنقل عائلته للعيش في الامارات، والثاني ترك الحريري لمصيره في تشكيل الحكومة والحكم على شكلها ومضمونها والتعاطي معه على هذا الأساس، والثالث تبني الحريري وإعطائه قوة يستطيع الاعتماد عليها في مفاوضاته.
وبإنتظار أن يتبلور واحد من هذه الاتجاهات ستبقى الحكومة معلقة على القرار السعودي الذي يعطيها غطاء سنيا، إقليميا ومحليا بات الحريري في أمس الحاجة إليه.
كثير من تساؤلات المشهد السياسي من خطاب الحريري مرورا باطلاله باسيل وصولا الى حراك بكركي وجدت أجوبة لها في مقابلة الرئيس نجيب ميقاتي مع قناة الحرة، حيث تحدث ميقاتي كمؤتمن على وحدة البلاد وعلى العيش المشترك والواحد، وشدد على ضرورة الحفاظ على التوازن بين كل المكونات السياسية الضامنة للاستقرار، وحماية إتفاق الطائف، والاصرار على تأليف حكومة وفقا للمبادرة الفرنسية، والتأكيد على أن لا ثلث معطلا لأي تيار سياسي، ورفض أي صراع بين اللبنانين.
ولم يتوان ميقاتي في تقديم نصيحة الى رئيس الجمهورية بأن يعود أبا لكل اللبنانيين وأن يضع حدا للازدواجية الرئاسية بينه وبين جبران باسيل الذي رد ميقاتي على طروحاته بالتأكيد على أنه يتصرف كرئيس للجمهورية بينما يتصرف الرئيس عون كرئيس للتيار الوطني الحر، وعلى أن الاصلاحات لا يجوز أن يتم مقايضتها، لأنها يجب أن تحصل بمعزل عن الحكومة.
في غضون ذلك، يبدو المعنيون بتشكيل الحكومة يقيمون على كوكب آخر، خصوصا أنهم لم يتنبهوا الى أن الأزمات التي تتنامى والغلاء الفاحش المتصل ببلوغ الدولار عتبة العشرة آلاف، تفرض عليهم التنازل لمصلحة اللبنانيين وذلك قبل إنفجار الوضع والذي يبدو أنه بات حتميا.
مواضيع ذات صلة: