هو المشهد يكرر نفسه في طرابلس..
فقراء يُستدرجون الى التحركات العنفية بفعل حرمان وإهمال الدولة، ويُستخدمون من بعض التيارات السياسية لتوجيه رسائل في إتجاهات مختلفة، ومع إنتهاء مهمتهم وإيصال الرسائل وتحقيق المكاسب المطلوبة، يأتي دور الأجهزة الأمنية التي تداهم منازلهم وتوقفهم وتقتادهم الى التحقيق ومن ثم الى السجن بجرم الاخلال بالأمن والاعتداء على القوى الشرعية أو معاملتها بالقسوة، من دون أن تحرك ساكنا تجاه مشغليهم الذين يسارعون الى تجنيد غيرهم للقيام في مهمات مماثلة.
ما حصل في طرابلس على مدار الأيام الماضية، هو تعبير عن وجع كبير دفع أصحابه للنزول الى الشارع للاحتجاج على تعاطي الدولة معهم كـ”أبناء جارية”، وذلك منذ إنطلاق ثورة 17 تشرين الأول التي دجنتها السياسة في كل لبنان، باستثناء طرابلس التي ثارت على لامبالاة الدولة تجاه أزماتها التي تفاقمت بفعل جائحة كورونا، وتفتقت مواهب الحكومة في معالجتها، بسجن المواطنين في منازلهم لشهر كامل من دون تقديم أية مساعدات مالية أو عينية.
هذا الارتجال في التعاطي الرسمي جعل الموت بكورونا أهون لدى فقراء المدينة من الموت جوعا، أو من الموت ذلاً أمام إلحاح الأطفال بالحصول على الطعام، خصوصا أن المساعدات التي تقوم بعض الجمعيات الطرابلسية بتقديمها لا يمكن أن تغطي تقصير الدولة التي تخلت عن طرابلس منذ عقود وقادتها الى إستنزاف مقدراتها الى أن ضعف دورها المحوري الذي كانت تلعبه على صعيد المنطقة والوطن.
قد يغضب فقراء طرابلس ويخرجون عن طورهم، وقد يستخدمون الحجارة المتوفرة في الشارع ضد القوى الأمنية والعسكرية، لكنهم لا يملكون ثمن القنابل اليدوية، وقنابل المولوتوف، وأنوار اللايزر، والمفرقعات، لأنهم لو كانوا يملكون ربع ثمن هذه التجهيزات الحربية لمكثوا في بيوتهم وأطعموا عائلاتهم ولتركوا الشقى على من بقي في الشارع..
هذا يعني أن هناك من إستغل غضب الفقراء، وإستغل حاجتهم الى المال، وحرضهم على مواجهة القوى الأمنية بهذا العنف، وزاد حماستهم بمرتزقة من المندسين عملوا على التأجيج ونفذوا المطلوب منهم، كما أن هناك من فتح أمامهم الطريق للوصول الى باب السراي والمحكمة الشرعية، للامعان في توريطهم وإغرائهم بإمكانية رمي المولوتوف والقنابل والمفرقعات عن قرب أو من أمام الباب الذي تم إحراقه مرات عدة خلال أيام الاحتجاجات، في حين كان من أقل التدابير التي من المفترض أن تتخذ هو ضرب طوق أمني حول تلك البقعة، كما يحصل عادة عند كل إحتجاج في منطقة من المناطق المحظية.
لم ينته الأمر عند هذا الحد، بل ثمة من حرّض الغاضبين على إستباحة بلدية طرابلس وإحراقها، من دون أن يجدوا في طريقهم من ساحة عبدالحميد كرامي مرورا بساحة التل وصولا الى البلدية من يردعهم أو يتصدى لهم حتى من الشرطة البلدية التي غاب عناصرها، ولم تغط القوى الأمنية والعسكرية مكانها، ليستشرس الموتورون وينتقلون الى جامعة العزم التي إقتحموها وعاثوا فيها تخريبا.
مع هدوء عاصفة الاحتجاجات وإنكشاف حجم الأضرار المادية والمعنوية والنفسية التي لحقت بطرابلس وأهلها، ووصول الرسائل السياسية، عملت القوى الأمنية على ملاحقة المتورطين حيث أوقفت العديد منهم وباشرت التحقيقات التي يريد أبناء طرابلس أن يطلعوا على تفاصيلها لمعرفة من حرّض وموّل ونظم هذه التحركات ضد مدينتهم.
كثير من الأسماء التي أوقفت هي معروفة لدى أبناء المدينة ولدى وسائل الاعلام أيضا، وهي كانت تظهر خلال الاحتجاجات، ما يعني أن توقيفها هو تحصيل حاصل، وإنما الأهم بالنسبة للطرابلسيين من كل الفئات والطبقات والتوجهات، هو توقيف المندسين الذين جاؤوا من خارج المدينة من ذوي اللهجات البعيدة عن “الطرابلسية”، وكشف ومعاقبة من يقف خلفهم ومن جنّدهم لهذا الاستهداف الآثم، وإذا كانت القوى الأمنية إتهمت بالتقصير في مواجهتهم، فعسى أن لا تتهم مجددا بإخفاء الحقيقة التي ما تزال غائبة في قضية إنفجار مرفأ بيروت.
مواضيع ذات صلة: