كالصدى، بلا أي مؤثّر أو تردّدات، بدت ″أمنية البطريرك الماروني بشارة الراعي أمس بطلبه من رئيسي الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة المكلف سعد الحريري عقد ″لقاء مصالحة شخصية تعيد الثقة بينهما″، على أمل أن يكون ذلك مقدمة لولادة الحكومة العتيدة.
يدرك البطريرك الماروني جيداً، وسواه أيضاً، أنّ الهوة الواسعة التي تفصل بين عون والحريري لا يستطيع لقاء مصالحة شخصية أن يردمها، وأنّ الراعي أيضاً، بما يملك من موقع معنوي، ليس الجهة التي تستطيع أن تمون على الرجلين لإنهاء الأزمة، ولو كان يحوز هذه المواصفات لاستطاع إاقناعهما بذلك يوم التقاهما، ولكن لأن أمنياته لم تجد من يوليها الإهتمام، بدا أمس وكأنه يحاول القول أنني حاولت ولم أفلح.
لم يعد خافياً أنّ الخلاف بين عون والحريري ليس عابراً ولا هامشياً، بل تحوّل إلى خلاف جذري حول كلّ شيء: السلطة والنفوذ وموازين القوى الداخلية والتوازنات على اختلافها، والتحالفات والتأثيرات الداخلية والخارجية، والأهمّ من ذلك كله رسم معالم الثلث الأخير من عهد عون الرئاسي لتحديد ملامح ما بعده.
عندما طرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مبادرته لإخراج البلد من أزمته المالية والإقتصادية، والإنهيار الذي وصل إليه، خصوصاً بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 آب الماضي، غاب عن بال الفرنسيين أنهم لا يملكون التأثير الكافي في بلد كان يوماً واقع تحت سلطة إنتدابهم، فالتاريخ وحده لا يكفي لفرض النفوذ والتأثير، والحاضر لا يشير أبداً إلى أن الفرنسييين يملكون هذا الدور، وبالتالي لا يقدرون عليه.
كان الفرنسيون يعرفون جيداً، وهم تجاهلوا ذلك قبل أن يصطدموا بالواقع اللبناني والدولي المعقد والمتشابك، أن مباردتهم ينقصها قبل كلّ شيء رعاية دولية وإقليمية لها إلى جانب قبول داخلي، على غرار إتفاقي الطائف والدوحة، لكنّ تسرّعهم، وحساباتهم السياسية الخاطئة، جعل مبادرتهم تتقهقر قبل أن تتلاشى وتصبح من الماضي.
في الآونة الأخيرة بدا لبنان متروك لقدره ومصيره، بعدما تخلى الجميع في الداخل والخارج عن بذل أي محاولة للإنقاذ، أو للجم الإنهيار. فالبلد الذي يستمر في الغرق سياسياً ومالياً وإقتصادياً ومعيشياً وإجتماعيا، وصل الإنهيار فيه أخيراً إلى القطاع الصحّي المهدد بالإنهيار التام بسبب تفشي فيروس كورونا، بعدما تبين أنّ كلّ الأموال الطائلة التي أنفقت على مدى أكثر من 3 عقود أنّها لم تنجز بنية صحية تمتلك مقومات الصمود الصحّي والإستشفائي، فضلاً عن أنّها لم تنجز أيضاً أي بنى تحتية أخرى، بفعل الفساد والسرقة والهدر والصفقات والسمسرات والمحاصصة.
لم يحصل أن شهد لبنان في تاريخ أزماته المتعدّدة، منذ الحرب الأهلية 1975 ـ 1990، نفض اليد منه وإدارة الظهر له كما هو الحال هذه الأيّام. لا أحد في الداخل يهتم بمصير بلده، أو بالأحرى ليس قادراً على القيام بأي دور طالما القرار والتأثير ليسا في يده. أمّا الخارج الإقليمي والدولي فهو مشغول كثيراً بأزماته، ولا يرى نفسه معنياً بإنقاذ بلد من الإنهيار والتلاشي والضياع، طالما لا شيء فيه يشدّهم ويدفعهم إلى بذل أيّ محاولة من هذا النّوع، بعدما أصبح لبنان بلداً فاشلاً بكل معنى الكلمة، وهو فقد رويداً رويداً الدور الرائد الذي كان يقوم به في السابق، لجهة أنّه بلد الحريات، ولو شكلاً، وبلد رائد على الصعيد المصرفي والتعليمي والصحّي والسّياحي، بعدما انهارات تباعاً هذه المقومات، بينما كانت بدائل أخرى أفضل وأرقى تنهض في المنطقة لتعوّض غياب لبنان، الذي دخل في غياهب مجهول لا يعرف موعداً للخروج منه.
مواضيع ذات صلة: