في ظلّ تداخل الأحداث وتشابكها بين الداخليّ والإقليميّ والدوليّ، قد تختلط المعطيات عند البعض ويتباينون في فهم وتوصيف مفهوم النصر والخسارة، حيث إنّ قراءة المشهد أصبحت وجهة نظر ترتكز أحيانًا على أهواء كتّابها وبما يتوافق مع انتسابهم إلى تيّارات ومشاريع تجعلهم يصفون المشهد بناءً على مصلحة المشروع الذي ينتمون إليه.
لكن في خضمّ هذا التباين بين مفهوم النصر والهزيمة، تبرز إلى الواجهة ظاهرة تضامن اللبنانيّين مع بعضهم البعض العابرة للمناطق والطوائف، رغم جميع حواجز الوهم والخوف من الآخَر التي شُيّدت بينهم؛ وظاهرة التضامن تلك تستحق التوقّف أمامها ودراستها وجعلها مرتكزًا ونقطةً محوريّةً يُؤسّس عليها في المستقبل.
ولنفهم هذا الموقف، يجب علينا أن نسلّم بأنّ تلك الظاهرة ليست آتية من فراغ، وكأنّها صدفة اجتماعيّة سياسيّة خاوية من عمق المضامين والجوهر؛ بمعنى آخر، إنّ اللبنانيّين يوم قرّروا استضافة البيئة الأكثر تألّماً وتضرّراً، متخطّين جميع حواجز الخلاف السياسي والمذهبي، لم يكن ليحصل ذلك لولا أنّ هناك عنواناً أعمق وأكبر وأشمل وأكثر استراتيجيّة يعيش في وجدانهم، فعبّر عنه اللبناني بموقف التضامن واللُحمة والتكاتف، حيث أنّ العداء للكيان الصهيوني وإدراك مصيريّة الصراع معه، وتسليم اللبنانيّين رغم تبايناتهم أنّ المعركة معه قائمة، وأنّ قوى المقاومة في المنطقة تقوم فقط بتعديل تاريخ نشوب المعارك، ليس إلّا، أمّا السبب البُنيوي للمعارك والصراع بحدّ ذاته، فيكمن في وجود هذا الكيان ومخطّطاته التوسّعيّة وأحلامه وعقيدته بأبعادها الدينيّة والأمنيّة والجيوسياسيّة.
بناءً على هذا الإدراك والفهم والوعي لطبيعة وحتمية الصراع مع هذا الكيان، وُلدت ظاهرة التضامن من كنف هذا الوجدان، ليُترجم من خلال هذا العرس الوطني الذي تمظهر بأجمل حِلَله يوم فُتحت البيوت والقلوب وتشاركت الناس الخبز والمأوى، وهذا بدون شك، ما أسهم في صمود جبهة الميدان، وكان تعبيراً ضمنيّاً عن التفويض بالتصدّي، وإطارَ مشروعيّةٍ للمقاومة أجاز لها التصدّي والردع، مع الاحتفاظ بحقّ العِتاب على سُبُل إدارة الصراع.
لذلك، يمكننا أن نختلف على توصيف مشهد النصر والخسارة، لكن لن يختلف اثنان على أن هذا التضامن هو نواة ولبنة يُؤسّس عليها في قادم الأيّام لرؤية وطنيّة جامعة تساوي بين جميع اللبنانيّين في نظرة عدائهم للكيان، وتُزيل الامتياز عن فئة وَصَفت نفسها على مدار سنوات بأنّها وحدها المستحوِذة على راية العداء تلك.
اليوم، ثبت أن جميع اللبنانيّين منخرطون في الصراع، وكلّ منهم يعبّر عن عدائه ويسعى للتصدّي حسب أدواته المتاحة، وبهذا نكون أمام دعوة لجميع الفرقاء في لبنان لإعادة تقييم المرحلة واستخلاص العِبر والدروس بأنّ ليس للبنان غير لبنان، وأن نتدارس صيغة وإطاراً وطنيّاً جامعاً، يصهر جميع ما توفّر من قوى هذا الوطن، ويوظّفها في مواجهة مخاطر العدوّ الذي لن نأمن له طرفاً، مهما كُتبت عليه مواثيق وعهود، فإنّ تاريخه مشوب بالرذيلة والإجرام.
وها هو لبنان يثبت كلّ يوم أنّه يكتنز في تكوينه عناصر صنع القوّة التي تحمي السيادة وتصون كيان الدولة، فمشهد عودة النازحين إلى ديارهم وقراهم صبيحة وقف إطلاق النار، أكبر دليلٍ على قوّة الانتماء والتشبّث بالأرض، وهذا فائض قوّة وثبات وصمود يُسجل لشعبنا، في المقابل، جمهور المستوطنين حيث عبّر ٦٠٪ منهم عشية وقف إطلاق النار عن عدم رغبتهم بالعودة إلى قراهم التي يعتبرونها مهدّدة وغير آمنة.
وهنا يكمن الفارق الجوهريّ بين أصحاب الأرض ودوافع الصمود والتصدّي لديهم، وبين المستوطن الذي يرى نفسه مجرّد مستثمرٍ لأرض وُعد بأنّ أمنه الاستثماري عليها مؤمَّن وعند تبلور هشاشة هذه الوعود حزم حقائبه ورحل وسيرحل.
Related Posts