إبراهيم رئيسي.. مرآة الثوابت الإيرانية إزاء قضية فلسطين وحركات المقاومة!.. وسام مصطفى

يستوقفك وأنت تتابع مراسم تشييع “شهداء الخدمة” في طهران، وقبلها في تبريز، مشهد رجل هرم محدودب الظهر متكئ على كرسي للمشاة حافياً يمشي في مسيرة الحشود الحزينة على رحيل رئيسه إبراهيم رئيسي ورفاقه.. 

كان لهذا الرجل ألا يتنكّب عناء السير في الشوارع التي اعتادت أن تعجّ بالجموع الضخمة في كل مرّة تواجه البلاد حدثاً كبيراً، إلا أنّه كما الملايين من الشعب الإيراني يعتبر هذه المشاركة بمثابة موقف يؤكد فيه ولاءه للدولة والشخص واستعداده لتحمّل المشقات في سبيل حفظ النهج والمسيرة. هو المشهد نفسه الذي شهدته إيران في تشييع الإمام الخميني قبل 35 عاماً وفي تشييع قائد فيلق القدس قاسم سليماني قبل 3 أعوام.

بعثت هذه الحشود برسالة إلى المحيط والخارج بأن إيران، وعلى الرغم من سنوات الحصار الأمريكي – الغربي الطويلة، ما تزال هي هي لم تتغيّر أو تتبدّل بشعبها وتماسك نسيجها الاجتماعي وبنيان مؤسساتها وثبات سياساتها واتجاهاتها وبقوّتها القادرة على تجاوز المحن والصعاب، ولعلّها في ذلك تؤكد أن الحدث الجلل لن يكون له أي أثر على النهج الذي بدأه الخميني واستمر إلى رئيسي، ولئن تفاوت تعاطي العهود الرئاسية في بعض الآليات والسياسات المؤقتة إزاء بعض الملفات الداخلية والخارجية، إلا أنها لم تحِدْ عن الثوابت حيال القضايا الجوهرية التي دخلت في صوغ هوية إيران الدولة وإيران القائدة لمحور المقاومة.

على مدى أقل من ثلاثة أعوام من عهده استطاع رئيسي تحدّي الحصار بقوة أكبر والانتقال بإيران إلى مراتب أفضل من حيث الاستقرار السياسي والاجتماعي وتحسين المستويات المعيشية والاقتصادية، أما على صعيد الملفات الخارجية فقد كان أكثر الرؤساء حركة في أكثر من اتجاه، ولا سيما لجهة تمتين العلاقة الاستراتيجية مع كل من الصين وروسيا وكوريا الشمالية وباكستان والهند، ورفع مستوى العلاقات مع الدول العربية والإسلامية وخصوصا مع السعودية، ونجح في استثمار التطوّرات العالمية لصالح كسر جدار الهيمنة الأمريكية على دول الجوار، فتوصّل إلى اتفاقات مبدئية معها وتنحية الخلافات الشكلية والتركيز على المصالح المشتركة، والعسي لإبقاء المنطقة بعيداً عن الصراعات التي تؤججها واشنطن خدمةً لإسرائيل.

الشهيد رئيسي الذي تحصّن بفريق دبلوماسي متمرّس قاده حسين أمير عبد اللهيان على رأس وزارة الخارجية استطاع فرض احترام إيران على المحفل الدولي العالمي، وظهر ذلك في حضور مراسم التشييع والمواقف المتعاطفة مع حدث الرحيل، إلا أن الأشدّ تأثراً كانت دول محور المقاومة وفي مقدّمتها فلسطين المحتلة التي تحظى بالموقع الأول لدى القيادة الإيرانية باعتبارها “القضية الأولى للبشرية جمعاء.. وتحوّلت من قضية العالم الإسلامي إلى قضية الإنسانية الأولى بعدما أدرك كل أحرار العالم مظلومية الشعب الفلسطيني”.

كان رئيسي يرى قضية فلسطين من منظور وحدة الاتجاه والهدف الذي تعتمده جبهات المواجهة ضد قوى الهيمنة والاستعمار، ويمثّل لبنان أولى عناصر هذه الوحدة، ليس بسبب طبيعة الجوار الجغرافي والانصهار التاريخي والاجتماعي بين البلدين فحسب، بل أيضاً لاشتراك الجبهتين في تشكيل رأس الحربة ضد “إسرائيل”، وتقاسمهما المحن والمآسي التي سبّبها الاحتلال الصهيوني منذ عشرات السنين لكلا الشعبين، ولذا نرى الشهيد رئيسي يوحّد الخطاب إزاء هذه المسألة ارتباطاً بوحدة البندقية والنضال من أجل التحرير الكامل والناجز، على أن الإنجاز الأكبر في السياق التراكمي للسياسة الإيرانية منذ انتصار الثورة عام 1979 حتى اليوم، أنها نجحت في إعادة بناء منظومة المواجهة، ولكن ليس تحت مسمّى دول الطوق، بل تحت مسمّى محور المقاومة.

إن خير دليل على نجاح السياسة التي تتبعها القيادة الإيرانية هو ادّعاء بعض مسؤولي الإدارة الأمريكية أن طلاب الجامعات الذين ثاروا تحت شعار “Free Palestine” وإنقاذ أطفال فلسطين يتحرّكون بإيعاز من الخامنئي، ليس لأن الادّعاء صحيح بل لأن الدعوة التي وجهها الخامنئي ورئيسي لـ “كل أحرار العالم أن يدعموا الحركة التي تدافع اليوم عن أرض فلسطين وهويته بشكل مشروع”، لاقت صداها بالفعل، وأدركوا أن “استمرار الاحتلال الصهيوني لا يمنح الصهاينة الملكية ولا الشرعية” لاحتلال فلسطين، ولذا لم يترك رئيسي فرصة إلا ويؤكد فيها دعم إيران الثابت لأهل غزة وفصائل المقاومة مؤمناً بأن “نهاية الكيان الصهيوني أمر حتمي.. وإن يد القوة الإلهية ستظهر من دماء أطفال غزة المظلومين الشهداء.. وإنّ مصداق مواجهة الظالمين والانتصار للمظلومين يتجلّى اليوم على أرض فلسطين السليبة”.

إذن فلسطين هي نقطة المحور وحولها الأقطاب الكبرى التي تشكّل دائرة المواجهة، من العراق واليمن إلى سوريا ولبنان، وهذه المعادلة كرّسها رئيسي من خلال مواقفه وتوجيهاته النابعة من حرصه على تكامل الأدوار في سياق هذه المواجهة، ليس فقط من خلال ما يمثله من موقع رئاسة، بل أيضاً بما يترجمه من نهج دولة، وقد طبّق هذا النهج بكل صدق وأمانة وإخلاص، دون أن يثنيه ذلك عن الاهتمام بالشأن الداخلي، فاكتسب محبة الناس والتفاف جبهات المحور.

الحديث يطول والنماذج كثيرة حول تمسّك القيادة الإيرانية، ولا سيما في عهد رئيس “شهداء الخدمة”، بالثوابت حيال قضايا التحرر في العالم، وعلى رأسها تحرير القدس باعتباره “الهدف الأسمى في العالم الإسلامي”، ولا نبالغ إذا قلنا إن التاريخ سيدوّن اسم إبراهيم رئيسي في سجل القادة الكبار، كما سيحفظ للشهيد عبد اللهيان أنه أدّى دوره الفاعل وزيراً لخارجية محور المقاومة، وكان الندّ الدبلوماسي اللطيف في أقسى جبهة عالمية مرّت في تاريخ البشرية، والمقاوم الشرس الذي لا يتنازل قيد أنملة عن ثوابت الحرية والسيادة والكرامة.


Related Posts


Post Author: SafirAlChamal