“تنذكر وما تنعاد” عبارة يرددها اللبنانيون من مسؤولين وتيارات سياسية وأحزاب ومواطنين بشكل شبه يومي، منذ إنتهاء الحرب الأهلية التي ساهم إتفاق الطائف في وضع أوزارها وإخماد نيرانها، لكنها في الوقت نفسه تعبر عن تناقض غير مسبوق، خصوصا أن من يتخذ من هذه العبارة شعارا يتغنى به، لا يتوانى عند أي إستحقاق أو أزمة سياسية أو أمنية يتعرض لها عن النفخ في بوق الفتن التي تؤسس لإستئناف الحرب.
خمسون عاما على إنطلاق الحرب الأهلية، ١٥ عاما من المآسي والمعاناة والظلم والقهر والقتل والتدمير نتيجة الركون الى لغة الحديد والنار، و٣٥ عاما من السلم الأهلي الهش المُهدد يوميا بفعل عدم إتخاذ العبر مما شهدته المناطق اللبنانية خلال سنوات الحرب العجاف، ولولا أن ثمة قرارات دولية كبيرة جدا بعدم عودة الحرب الأهلية إلى لبنان لكان وطن الأرز يحترق بأحقاد أبنائه منذ سنوات طويلة.
يتجه اللبنانيون إلى إحياء ذكرى ١٣ نيسان اليوم، لكن أحدا منهم لم يتعظ من هذه الحرب ولم يتخذ أية تدابير جدية لمنع تكرارها، ولم يتخل عن أي سلوك قد يؤسس لها مجددا، لذلك فإن لبنان كان وما يزال على “كف عفريت” في السياسة والأمن والتبعية والايديولوجيا والإستقواء بالخارج والسعي إلى تهميش وإضعاف الشركاء في الوطن.
لا شك في أن سياسة الإستقواء المعتمدة اليوم وبعد عدوان إسرائيلي وحشي على جنوب لبنان وبقاعه وعاصمته بيروت وصولا إلى شماله تؤسس من حيث يدري أو لا يدري متبعوها إلى شرخ وطني يعيد إلى الأذهان الحرب الأهلية في ذكراها الخمسين.
ففي بلد التنوع والتوازنات السياسية والطائفية والمناطقية، ثمة إستحالة لتهميش أي مكوّن من مكوناته وتحت أي عنوان أو ذريعة، خصوصا أن كل التجارب أثبتت بما لا يقبل الشك أن الإستقواء بهدف تطويع أو تهميش أي شريك في الوطن يفتح الأبواب على مصراعيها أمام كل أنواع الفتن والصراعات والتوترات.
الأزمات التي ترخي بثقلها اليوم على البلاد ناتجة عن أن الجشع للسلطة ونهج التعالي وسياسة التشفي والاستقواء على الآخر هو محور السياسة التي تمارس في الآونة الأخيرة ويضرب أصحابها المصالح الوطنية العليا بعرض الحائط، وهم يقرأون المشهد السياسي اللبناني قراءة ارتجالية، متعجلة، أنانية وفئوية لا تستند إلى معطيات دقيقة، خصوصا أن البيئة التي يحاولون محاصرتها والضغط عليها لم تفقد القدرة على قلب الطاولة على الجميع وهي تستطيع إن أرادت إحداث تغيير جذري في كل المشهد القائم كونها البيئة الأقوى تنظيما وشعبيا ورؤية والتسليم بهزيمتها أو ضعفها يحتاج إلى كثير من العقلانية والى مزيد من التدقيق.
هذا على الصعيد الداخلي، أما لجهة ما يُحضّر في الخارج، فإن البعض في لبنان غائب عن الحوارات الجارية وعن المساعي لبلوغ التسويات الكبرى، وبالتالي ، فإن الدول الفاعلة إقليمياً ما تزال تمتلك القدرة على التأثير وهي شريك غير معلن في الاستحقاقات اللبنانية من الرئاسة إلى الحكومة إلى ما ينتظرهما من تحديات.
في الذكرى الخمسين للحرب الأهلية، يفترض أن يدرك الجميع أن الإستقواء بالخارج لم يجر على لبنان إلا الويلات، وأن الحريص على الوحدة الوطنية والمصلحة اللبنانية العليا والاستقرار والأمن والطمأنينة والأمان، عليه أن يفتش عن القواسم المشتركة بين مكونات الشعب اللبناني والتي ظهرت بأبهى صورة في العدوان الاسرائيلي وفي إحتضان اللبنانيين لبعضهم البعض، لا أن يفتش عن كيفية توسيع نقاط الخلاف وعن لغة التحريض واثارة الغرائز والاستفزاز وتقديم كل الذرائع لعدم الاستقرار ثم يدعي الحفاظ على أمن وسيادة وإستقلال الوطن.
لا شك في أن لبنان بكل مناطقه مهدد اليوم بأن تستأنف إسرائيل عدوانها عليه، وهي تفتش “بالفتيلة والسراج” عن الفتنة لتنفيذ مخططاتها وضرب كل الإتفاقات والقرارات الدولية، فيما البعض عن قصد أو ربما عن غير قصد يفتح الباب أمام هذه الفتنة وينفخ في نيرانها من خلال التبني والترويج للسردية الإسرائيلية والتغاضي عن العدوان والاحتلال ومن ثم المناداة ببسط سلطة الدولة على كامل أراضيها.
في الذكرى الخمسين للحرب الأهلية يطل رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون بكلمة إلى اللبنانيين، فعسى أن تشكل خارطة طريق للخروج منها ومن مصطلحاتها التي تفرض نفسها عند كل أزمة، وعسى أن تساهم في تبريد بعض الرؤوس الحامية التي تنادي اليوم بما يشبه “محاكم التفتيش” وأن تُخرج أصحابها من أجواء الحرب والانقسامات الطائفية والكانتونات والغيتوات والفيدراليات والتقسيم وأوجه الشبه التي ما تزال تسيطر على مخيلاتهم!..
Related Posts