الشيخ ماجد الدرويش محقّقًا كتاب علامة الفيحاء ورئيس العلماء.. 

وثيقة جديدة من تحقيق الشيخ الدكتور ماجد الدرويش- ( صادر عن منشورات مؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق الثقافية، ٢٠٢٤) -تضيف صورة متجدّدة عن واقع طرابلس الحضاريّة، فجاء تحقيقه ” نثر اللآلي في ترجمة أبي المعالي علامة الفيحاء ورئيس العلماء الشيخ عبد الكريم محمد عويضة”(1865-1958)، شهادة في تاريخ هذه المدينة طرابلس التي عُرفت بمدينة العلم والعلماء، مشيرًا إلى أنّ علّامة كتب عن علّامة، فالكاتب هو الشيخ صبحي الصالح الذي قصد الكتابة عن معلّمه وأستاذه وموجّهه لتبقى التلمذة معبر الناهدين إلى العلم إيمانًا وترجمة عقيدة. هذا، ونوّه الدكتور سابا زريق رئيس المؤسسة بأهمية الكتاب، وإعادته محقّقٌا مع الشيخ ماجد الدرويش ” لينتشل من غياهب النسيان الطبعة الأولى من الكتاب المذكور، وليشبعها تمحيصًا، وليضفي كذلك عليها بصمته، متيحًا للباحثين النّهل من تلك اللآلي”.(ص11).

من المفيد الإشارة إلى أنّ المحقّق سمع عن الكتاب، للمرة الأولى، عندما ذكره أمامه الإمام عبد الفتاح ابو غدّة، فبحث عنه فوجده عند المهندس عصمت عويضة، فعكف المحقّق على تحقيق الطبعة الأولى” إكرامًا لمن ذكره أمامه، وتعريفًا لأجيال طرابلس بخاصة، والعالم الإسلاميّ بعامة، بصفحة مشرقة من مدينة العلم والعلماء”(ص13)، خاصة وأنّ الكتاب ” يحوي معلومات نادرة عن علماء طرابلسيين، وجرائد ومجلات، ومدارس، وأخبار تبرز جانبًا مهمًا من الحياة العلميّة في طرابلس الشام أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين”.(ص16).

كان الشيخ عبد الكريم محمد عويضة ، كما جاء في تأبين مصطفى الزرقا له: حلقة من ” حلقات سلسلة التراث القديم التليد في الماضي البعيد من رجال هذا البلد الميمون الشيوخ: برهان الدين الطرابلسيّ، إبراهيم الأحدب، محمود نشابة، محمد رشيد رضا حسين الجسر، والشيخ محمد الحسيني والشيخ اسماعيل الحافظ والشيخ عبد المجيد المغربيّ والشيخ عبد القادر المغربيّ” (ص22). كانت هذه السلسلة ” هي المسؤولة عن صيانة ذلك التراث الجليل القديم، وإضافة ما أصبح العصر الحاضر يتطلّب إضافته إليه من تطعيم بالمواد والوسائل والألوان الحديثة في ثقافة علماء الشريعة الإسلاميّة” (ص24). تتّضح، من كلمة التأبين، ملامح شخصيّة عويضة فهو” واسع الاطّلاع والحفظ في الأدب والشعر والشواهد(…) من دعاة دراسة الأدب العربيّ،  فدراسته من واجبات الدين الأساسيّة (…) حفأظًا مدهش الحافظة (…)(ص25). وكان ، كما يوضح تلميذه وكاتب سيرته الشيخ صبحي الصالح” يؤثر معها أن يجمع التلامذة في داره، أو يجتمع بهم في إحدى المدارس أو المساجد ليلقي عليهم من الدروس الشفهيّة ما يمكّن المعلومات قي أذهانهم” (ص32).

تكتشف في الشيخ عبد الكريم عويضة محطات في سيرة حياته “منذ ولادته في طرابلس الشام عام 1282ه؛ حيث قرأ القرآن على الشيخ عبد الدائم نشابة، ليلتحق لاحقًا بمكتب الشيخ محمد الميقاتي الشاعر”، (ص36) ” ليمتهن فيما بعد في سنّ الثالثة عشرة مهنة صناعة الصابون، صناعة آبائه واجداده، لكنه لزم علماء عصره وخاصة الشيخ حسين الجسر، وكان تلميذًا له، (ص38)  الذي لما تيقّن من نضوجه بأنواع العلوم العقليّة والنقليّة شجّعه الذهاب إلى مصر لاستكمال الدراسة في الأزهر الشريف( ص49)، حيث أخذ عن الشيخ الأكبر عبد القادر الرافعيّ (ص53)، ومن هناك تسنّى له القيام برحلة الحج  وقد بات هناك سبعة أيام إضافيّة ولكن في مدينة جدّة بسبب انتشار وباء الكوليرا( ص61)، ولما عاد بقي في المحجر الصحيّ واحدا وثلاثين يومًا، ولم يبدّد وقته في الحجر، بل انصرف “يقرأ كلّ يوم درسًا للحجاج فيجتمعون عليه” ( ص 61).

تتلمذ في الأزهر على يد كوكبة من العلماء(ص69) ولما استكمل تحصيله ” استجاز بعض شيوخه فأجازوه بما أذن لهم بروايته، كما أجاز بالإفتاء واالدروس العامة”( ص82). بهذه الإجازة وقّع كمدرّس الجامع المنصوريّ الكبير، والفقير إليه سبحانه، إجازة ” لولدي القلبي السيد صبحي ابن السيد إبراهيم الصالح من أهالي أسكلة طرابلس الشام(…) بكلّ ما أجازني به مشايخي الكرام”(ص83). بدأ “يلقي دروسه في الجامع الحميدي، الذي اختاره له المفتي شيخه  حسين الجسر، لأنّه كان خارج البلدة”(ص89)، ثمّ إلى جامع البرطاسيّ(ص90)، وكان له تلامذة منهم المشايخ: كمال الأدهمي، محي الدين الملاح، رفعت الضناوي ورامز الملك وغيرهم(ص92). أعاد رحلة الحج مرة ثانية، والتقى في طريقه العديد من المشايخ من أساتذة وطلاب له (ص99) ليمضي بعد ذلك إلى اسطنبول في البعثة العلميّة فكان يعطي الدروس في مختلف المناطق بين لبنان وسوريا وتركيا (ص112).

مارس التربية والتعليم، فكان أستاذًا في كلية التربية والتعليم الإسلاميّة، فكان يوجّه الطلاب إلى المشاركة في المحاضرات الثقافيّة والأدبيّة ( ص113)، و” لغزارة علمه تمّ تعيينه عضوًا في المجلس الإسلاميّ الأعلى، وعضوًا في مجلس المعارف، ومديرًا للمدرسة العلميّة ،وعضوا في دائرة الأوقاف الإسلاميّة بطرابلس، ومن ثمّ اختير نائبا عن المفتي، ولكنه عاد واعتذر عن كلّ مهماته عام 1954 وكان قد تجاوز التسعين” (ص115)، منصرفًا إلى العبادة، وإلى تأمين منح للنجباء لمتابعة تعليمهم في الأزهر الشريف، ومنهم المشايخ رامز الملك، وناصر العمادي ومحمود توفيق الملاح وتلميذه صبحي الصالح وغيرهم ( ص 117)، ومن باب الوفاء يسرد الشيخ الصالح الموقف الكريم للشيخ عويضة الذي لم يكتف بإرسال الشيخ صبحي إلى الأزهر الشريف، “بل شمل بعنايته شقيقي ناصر الصالح”(ص 119).

ختاما ” رحم الله تعالى تلك النفوس العظيمة، والشمس البازغة التي أبت إلّا أن يعمّ شعاعها العالم، وعلى أمل أن يجود علينا زمان طرابلس بأمثالهم”.(ص 149).


Related Posts


Post Author: SafirAlChamal