رمضان الميناء.. حيث تعمرُ القلوب بالبشرى والفرح!.. د. جان توما 

في تلك الأيام المباركة من شهر رمضان، في ستينيات القرن العشرين، كانت أزقة الميناء الداخليّة تعجّ بالناس، يوم لم تكن قد قامت بعد المنطقة السكنيّة الباطونيّة في المقلب الغربيّ من المدينة. يومها كان حيّ الخراب الممتدّ من برج عز الدين قرب الشاطىء الفضيّ إلى البوابة مرورًا بوراء خان التماثيلي والجامع العالي (تحت القبوة) وصولا إلى جامع غازي فالبوابة.

هذا الشريان الاقتصاديّ الذي ضمّ النسيج الأهليّ الميناوي شهد، وما زال، للعادات والتقاليد في الأعياد المتنوّعة، وخاصة في شهر رمضان الكريم.

في هذا الشهر المبارك يستيقظ السوق متأخرًا، يلتقي فيه الناس صباحًا يتبضّعون استعداداً لتأمين مقوّمات الإفطار مساء بانتظار ضرب المدفع، ذاك الذي كان ينطلق صوته من قلعة طرابلس، ثمّ في منطقة المعرض، ليصل الصوت إلى فقش الموج، فيفطر الصائمون.

في هذا الشهر الفضيل تزداد الجلسات عند مصطبات البيوت في أحاديث أهليّة للوقوف على أحوال الجميع.

كان هذا هو المسلسل اليوميّ العفويّ البسيط الذي غاب اليوم لمصلحة المسلسلات التي تعجّ بها القنوات الفضائيّة. يومها لم يكن هناك إلاّ قناة 7 وقناة 11 بالأبيض والأسود، فيما كانت الجلسات العائليّة في الحارات تزهو بالألوان الزاهيّة محبة وافتقادًا ورعاية جماعيّة لحلّ المشاكل والتدخّل لفضّ الخلافات والمسامحة في العائلة الواحدة أو بين افراد الحارة.

في هذه الجلسات يتعلّم الصبية معنى الأمثال الشعبيّة العمليّة، ويصغون بروية إلى معاني الحديث الشريف، كما في رؤية أصحاب المحال جالسين في دكاكينهم، أو على مداخلها، وفي أيديهم القرآن الكريم يتمتمون الآيات بصوت خافت لملامسة القلب الواجف. في هذه الأحياء يصدح المنشدون عبر الإذاعات، وينصرف الصائمون مساء إلى بيوتهم للإفطار ، ثمّ إلى المسجد مشاركين في صلاة التراويح، ويعاودون القيام ليلا صلاة واستذكارًا وتسبيحًا.

في تلك الحارات يطلع عليك نور القناديل ليلا من المطابخ المنشغلة بإعداد السحور، وكان البيت ملتقى أفراد العائلة، حيث لم تكن المقاهي والمطاعم قد انتشرت، وتفقد العائلة أواصرها وتتفكّك. في هذا الحيّ الميناوي الذي يسكن فيه العمال وصيادو السمك كانوا قبيل الإفطار يضعون صحنًا من الأكل السريع على حافة النافذة التي تطلّ على الزقاق، لعلّ أحدهم تأخّر في الوصول إلى بيته للإفطار، فإذا ضرب المدفع تناول أوّل صحن من أوّل نافذة يصلها، يتناول لقمة بسيطة، أو يتناولها فقير صائم من دون أن يلحظ أحد حاجته، فيشارك الغريب في الإفطار غريبًا ويصيران معتصِمين بحبل الله فلا يتفرّقا.

في هذه الحارات انتشرت عادة “السكبة”، وهو سكب لقمة من طعام الإفطار، ويناوله أهل البيت لجيرانهم، فيناولوهم ” سكبة” مقابلة من عندهم، فتتنوّع أطعمة الإفطار، ويتوفّر صحنٌ من اللحم للبعض الذي لربّما لا يقدر على تأمينه، فيتساعدون من دون حرج أو استيحاء.

تبقى نوبة “الشيخ صبري” ببيارقها وطبولها تضفي على الأيام الرمضانيّة عبقًا جميلًا، في تجوالهم على أحياء المدينة، منشدين ومعبّرين عن الفرح الكبير بحلول الشهر الفضيل، وسط الأهازيج والسعادة، كذلك يبرز في الأفران الخبز” الماوي”، وهو خاص بشهر رمضان توضع عليه حبّة البركة، كما تزدهر صناعة “الكربوج” والحلويات الرمضانيّة.

الليالي الرمضانيّة في الحيّ القديم في الميناء كانت وما زالت على بساطتها، في تجمّع الناس أمام مصطبات البيوت بعفوية، لا تلهيهم الشاشة التلفزيونيّة، لأنّهم ما زالوا يؤمنون بالأصول الرمضانيّة حيث تعمر القلوب بالبشرى والفرح، وتزدحم المساجد بالمصلّين، وينصرف أهل الحارات إلى المعونة والتآزر تخفيفًا عن كثير من عوز العائلات المحتاجة ولكن بتعفّف وبخفر.


Related Posts


Post Author: SafirAlChamal