اتفاقية الشراكة الاستراتيجية بين الصين وإيران في ظلّ عالم متغيّر: أهمية الدّور 2/1.. بقلم: إيمان درنيقة الكمالي

يشير الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي في كتابه” مذّكرات سجن: ” إنّ الأزمة تتمثّل بدقّة في حقيقة أنّ القديم يموت، والجديد يتعذّر ميلاده؛ وفي هذه الفترة الانتقاليّة، كثير من العوارض الخبيثة تظهر على السّطح.”

لا شك أنّنا نمّر اليوم  ب”الفترة الانتقاليّة” التي حذّر منها  “غرامشي” ، في ظلّ المتغيّرات المعقّدة والتّجاذبات والاضّطرابات والإخفاقات في سياق التاريخ والعالم والزمان.

إنّها مرحلة يشوبها الكثير من الغموض والالتباس، هي مرحلة لا اسم لها و”لا هوية”، بل هي مرحلة “الفوضى في النظام العالمي”، الفوضى في كلّ التفاصيل وفي التّطبيق على أرض الواقع، بعد أن بدت قيادة النّظام ضعيفة وواهنة لا تكاد تلتقط قضيّة، إلّا وتتبعها قضايا من الأمن، إلى الاقتصاد، إلى السّياسة، إلى الاجتماع، إلى الثقافة.

وفي ظلّ هذه الاخفاقات المنتشرة في كل المجالات، يواجه النظام العالمي الحالي موتًا سريريا بطيئًا، بينما يناضل نظام جديد للظهور. وتشهد العلاقات الدولية تحوّلات متسارعة ومتعدّدة الأبعاد، وتبرز دول جديدة وصاعدة تسعى للتربع على عرش الزعامة العالمية. وفي هذا السياق، تصبح التفاهمات الثنائية بين الدول عاملاً حاسمًا في تحديد مسارات السياسة الخارجية لإعادة رسم خارطة العالم وتوازنات القوى فيه.

ولا شك أن التفاهم الصيني- الايراني هو من أهم التفاهمات. وقد نشأت بذور هذا التفاهم من خلال الخطة التي اقترحها الزعيم الصيني شي جين بينغ خلال جولته الشرق أوسطية عام 2016، والّتي توجّت في ما بعد باتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين البلدين، و تمّ توقيعها من قبل وزيري الخارجية في 27 آذار 2021. وهذه الاتّفاقيّة هي عبارة عن خطّة عمل شاملة، أو” خارطة طريق”، وتعاون تجاري واستراتيجي لتعزيز العلاقات الإيرانيّة الصّينيّة، وتحقيق الربح للطرفين، على أن تضخّ الصّين في إيران استثمارات هائلة في كلّ القطاعات الحيويّة، مقابل أن تمدّ إيران الصّين بالنفّط والغاز لمدة 25 سنة، وبأسعار تفضيليّة. ولا تقتصر مجالات التعاون على الطاقة فقط، بل تشمل مجموعة متنوعة من المجالات، بما في ذلك الاقتصاد، والتجارة ، والبنية التحتية، والتكنولوجيا والاتصالات،  والcybersecurity . وتعكس الاتفاقية التزام البلدين بتعزيز شراكتهما الاستراتيجية، وحرصهما على استقرار منطقة الشرق الأوسط من خلال تعزيز الحوار والتعاون الإقليمي.

 فما أهميّة الدّور الّذي تلعبه اتّفاقية الشّراكة الاستراتيجيّة الصّينيّة – الإيرانيّة؟

 لا شكّ  أنّ توقيت الاتفاقيّة مهم جدّا بالنسبة للصين وإيران. فبالنسبة لإيران، لقد جاء توقيت الاتفاقية في سياقٍ هامٍّ تميّز برفع الحظر الأممي الذي فرضته الأمم المتحدة وفقا للقرار رقم 2231 الصّادر عن مجلس الأمن الدّولي عام 2015، والذي يسمح لإيران وبشكل تلقائي شراء، وبيع الأسلحة التّقليديّة بعد 5 سنوات من تاريخ القرار.  كذلك، جاءت الاتفاقيّة في وقت تعاني فيه إيران من سطوة العقوبات الأحاديّة الجانب المشدّدة المفروضة عليها من أمريكا، وتعثّر المفاوضات بشأن العودة للاتّفاق النووي؛ ما جعل إيران في وضع اقتصادي متدهور، قد يكون الأسوأ منذ نحو أربعين عامًا، مع محدوديّة الإيرادات الّنفطيّة، وتحوّل ميزان التّجارة من فائض إلى عجز بمليارات الدّولارات مع شركاء التجارة، وانهيار في قيمة عملتها المحلّيّة. وفي ظلّ هذه الظروف، فإن الاتفاق يأتي بمثابة “طوق نجاة” لإيران المتعطّشة للاستثمارات الأجنبية الضرورية لسدّ الفجوة في اقتصادها، وتعزيز مكانتها في عالم “ما بعد القطب الواحد”.

 وبالنسبة للصين، تُمثّل الاتفاقية خطوة هامة في تعزيز أمن الطاقة، حيث تُؤمّن لها الحصول على احتياجاتها من النفط والغاز من دولة غير خاضعة للنفوذ الغربي، وعبر ممرّات ملاحية جديدة لا يتحكّم بها الغرب.

كما تأتي الاتفاقية في ظلّ توتّر العلاقات بين الصين والولايات المتحدة حول القضايا التجاريّة، والعسكريّة، والأمنيّة، والتّكنولوجيّة، إذ تتّهم أمريكا الصّين بالتّلاعب بنظام التّجارة الدّولي، والعملة الدولية، وسرقة الملكيّة الفكريّة الغربيّة ونقلها قسرًا، وعسكرة الجزر الاصطناعيّة. ومن ناحية اخرى،  تُعاني الصين من عقوبات أمريكية، وتسعى إلى ردّ الصاع صاعين من خلال دعم إيران، “هجومًا مضادًّا” لمبيعات الأسلحة الأمريكية إلى تايوان. وتسعى الصين الى أن تستغل انشغال البيت الأبيض عن الشّرق الأوسط وتركيزه على منطقة آسيا، والمحيط الهادئ لاقتحام المنطقة الحيويّة الغنيّة بالنّفط، والغاز، والطّرق البحريّة، مستخدمة كل أدوات اللّعبة الجيوستراتيجيّة، من أدوات اقتصاديّة متمثّلة بعقد الصّفقات الكبرى وتفعيل مشروع طريق الحرير، وأدوات عسكريّة عبر المناورات، وبناء قواعد عسكريّة. كذلك، تسعى الصين إلى إعادة “غمس” واشنطن في صراعات الشّرق الأوسط، وتحويل اهتمامها وتركيزها عن المنطقة الباسيفيكيّة.

 إضافة إلى ذلك، فإن الاتّفاقيّة هي، كما  وصفها الكاتب والمحلّل الجيوسياسي  الأميريكي روبرت كابلين، “تحالف لا يهزم Unbeatable combination” ، لأنها تحالف بين قوتين تمتلك كل منهما عناصر قوة مفيدة ومهمّة للأخرى.

 فمن ناحية الصين، هي اليوم قوة عالمية لا يُمكن تجاهلها، بفضل ثقلها الديموغرافي، وقوّتها الاقتصادية الناعمة، وموقعها الجغرافي الاستراتيجي المطلّ على بحر الصين الجنوبي، واطلالتها على مضائق حيويّة وممرات ملاحية ذات أهمية استراتيجية وجيوبوليتيكية، تمر من خلالها ثلث التجارة العالميّة، إضافة إلى قوّتها العسكرية المتنامية، خاصةً في مجال الصواريخ والطائرات المُسيّرة، والأسلحة الذكيّة، واقتصادها القويّ، وحضورها السياسي الفاعل؛ كلّها عوامل تُؤكّد على امتلاكها لمقومات الهيمنة التي لا تُضاهى.

وقد برزت اليوم كقوة سياسية واستراتيجية طموحة، بفضل مشروعها الضخم “الحزام والطريق” الذي يربطها بـ 125 دولة في آسيا وأوروبا وإفريقيا عبر 6 مسارات.

هذا المشروع نقل الصين من مجرد مشاركة في موجة العولمة إلى صانعة لها؛ ممّا يُؤكّد على أنّها أصبحت لاعبًا رئيسيًا على الساحة الدولية، وهي تُنافس الولايات المتحدة على القيادة العالمية.

 ومن ناحية إيران، فقد أثبتت أنّها ليست “دولة مارقة” كما تعتبرها الولايات المتحدة الأمريكية، بل دولة لها مكانتها الإقليمية، وصاحبة قرار في منطقة الشرق الأوسط. وقد استفادت من موقعها الجغرافي، فهي تتوسط أهم مركزين للطاقة، الخليج العربي وبحر قزوين، وتعتبر نقطة ارتكاز في مشروع الحزام والطريق الصيني، كما أنّ موقعها قرب مضيق هرمز وتحكّمها فيه يعطيها قوة إضافية، إذ يمكن لإيران تعطيل العمل في المضيق كليّا أو جزئيا؛ الامر الذي يؤدي الى نتائج وخيمة على التجارة العالمية والاقتصاد العالمي. كذلك، تمتلك إيران ثاني أكبر احتياطات الغاز في العالم بعد روسيا،  واحتياطات هائلة من النفط. كما أنّها تتمتع بقوات حربية ضخمة، وقوات عسكرية تتمثل بالجيش النظامي والحرس الثوري إضافة إلى أذرعها Proxies المنتشرة في الشرق الأوسط والعالم، وبرنامجها النووي المتقدم.

وعلى الرّغم من صورة إيران “السلبية” أمام العالم كدولة “قمعية استبدادية لا تحترم حقوق الإنسان “وفق” معايير الغرب”، فقد استفادت من حرب أمريكا على العراق، ومن ثورات الربيع العربي لتعيد تعزيز مكانتها على حلبة السياسة الدولية، ولتؤكّد أنها دولة ذات وزن طاغ على السّاحة السّياسيّة وفي إيجاد التوازن في أمن المنطقة، وأنّه لا بد من أن تكون طرفا في المعادلات الاقليمية وسياقات النظام الدولي.

 وهكذا، وفي ضوء ما سبق، نستطيع التأكيد على أن الاتفاقية الصينية الإيرانية تمثل تحالفًا استراتيجيًا ذا أهمية كبيرة على الساحة الدولية.

 وحتى لو كان ما زال من المبكر معرفة ما سيحمله المستقبل؛ إلّا أنّه من المرجّح أنّه سيكون للاتفاقية العديد من التأثيرات في ظلّ عالم متغيّر.

يتبع غدا..

الكاتبة: الدكتورة إيمان درنيقة الكمالي

أستاذة جامعيّة- باحثة سياسيّة


Related Posts


Post Author: SafirAlChamal