جبهة اليمن تحشر رأس أميركا بين مطرقة الحرب وسندان التراجع!.. وسام مصطفى

ثماني سنوات من الحرب على اليمن كان الحدث خلالها يدور حول إمكان حركة “أنصار الله” على الصمود أمام “العواصف” التدميرية التي كانت تشنّها قوات التحالف الأميركي – العربي على مواقع الحوثيين وتجمّعاتهم العسكرية والمدنية.. انتهت الحرب وهدأت الجبهة بعدما تأكدت استحالة الانتصار على أصحاب الأرض، فتحوّل الحوثيون من موقع المتلّقي والمدافع إلى موقع المبادر والمهاجم، وأصبحوا بعد “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر هم الحدث، أو الأجدر القول إنهم هم الذين يصنعون الحدث، وبات النقاش يدور اليوم حول المدى الذي يستطيع فيه الحوثيون الذهاب إليه في تغيير خارطة الصراع الجيوسياسي في المنطقة برمّتها.

لا تخفى على أي مطّلع الأهمية الاستراتيجية التي يشكّلها حوض البحر الأحمر لاحتضانه مضيق باب المندب وانفتاحه على قناة السويس، وهو واحد من أهم الممرّات البحرية التي تفرض نفسها كقضية اقتصادية بالدرجة الأولى، نظراً لأهميتها المحورية على المستوى الدولي، فهذه الممرات تتحكّم بما يزيد عن 60 بالمئة من الإنتاج العالمي من النفط ومشتقاته، فيما تشير التقديرات إلى أن ما يقرب من 7 % من إنتاج النفط العالمي، يمر يومياً عبر مضيق باب المندب (أكثر من 25 الف سفينة سنوياً)، حيث تعبره الناقلات نحو قناة السويس ومنها إلى أنحاء العالم، مما يجعله يحتل المرتبة الثالثة عالمياً من حيث كمية النفط التي تجتازه يومياً.

وما يضاعف من أهمية مضيق باب المندب الاستراتيجية والاقتصادية كونه ممراً رئيسياً لشحنات الطاقة العالمية نحو أوروبا وآسيا والولايات المتحدة، فضلاً عن المنتجات الزراعية والصناعية، كما تكمن أهميته في ارتباطه بقناة السويس وقربه من مضيق هرمز، لا سيما مع ازدياد صادرات النفط الخليجي إلى الأسواق العالمية، على أن الأهمية الأكبر لدى الولايات المتحدة و”إسرائيل” وأوروبا تكمن في أنه يشكّل المعبر الضروري للوصول إلى مرفأ إيلات، حيث تسعى “إسرائيل” إلى شق قناة بحرية تحت مسمّى مشروع “بن غوريون” تصله بالبحر الأبيض المتوسط عند نقطة عسقلان الممتدة من شواطئ غزة، وبذلك تقضي على قناة السويس كممر حيوي واستراتيجي.

انطلقت القوات المسلحة اليمنية في الإمساك بمطرقة البحر الأحمر انتصاراً للشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ودعماً للمقاومة الفلسطينية، واستهدفت حتى لحظة كتابة هذا المقال 57 سفينة، من بينها 21 سفينة أمريكية، وخمس سفن تابعة للعدو الإسرائيلي، وثماني سفن بريطانية، وعشرة سفن مرتبطة بالعدو الإسرائيلي، والبارز في نتائج هذا الاستهداف غرق السفينة البريطانية “روبيمار” كونها الأولى التي تغرق في البحر الأحمر بعدما بقيت جانحة لمدة 13 يوما قبالة ميناء المخا اليمني، وكذلك قصف سفينة “True Confidence” الأمريكية المرتبطة بالعدو وإلحاق إصابات بشرية على متنها، إلا أن الأبرز هو انتقال المواجهة من الطابع التجاري إلى الطابع العسكري حيث أصبحت السفن والمدمرات الحربية الأمريكية والبريطانية هدفاً مباشراً للصواريخ اليمنية الباليستية البحرية وسلاح الجو المسيّر.

لم يكن هذا التطوّر الميداني مستبعداً بفعل التدخّل العسكري الأمريكي المباشر من خلال القصف الجوي الذي استهدف مقرّات ومواقع تابعة للحوثيين في أكثر من منطقة ساحلية وداخل العمق اليمني، بالتزامن مع إعادة إدراج الحوثيين على قائمة “الإرهاب” الأمريكية، وهو ما عدّه اليمنيون إمعاناً في دعم “إسرائيل” للمضي في ارتكاب الجرائم بحق الشعب الفلسطيني، وقد حاولت واشنطن حشد أكبر عدد ممكن من الأطراف تحت عنوان “حارس الازدهار” ولكنها فشلت في ذلك فشلاً ذريعاً، فلم تجد سوى بريطانيا لتنضم إليها في بعض الغارات في مشاركة “إسقاط الواجب”، أما الموقف العربي فتأرجح بين الإدانة والاستنكار وبين الاحتجاج وإبداء القلق من تطّور المجريات الميدانية إلى مرحلة قد تأخذ المنطقة كلّها إلى حافة الانفجار.

في الواقع، استطاع اليمنيون ميدانياً أن يسقطوا “هالة التفوّق” التي كانت تحيط بأقوى دولة في العالم، حيث لم تستطع القواعد العسكرية الغربية المنتشرة والسفن الحربية المحتشدة أن تحدّ من استهداف السفن والناقلات المتوجهة إلى الموانئ الصهيونية، ولم تفلح الغارات التدميرية المتواصلة من تاريخ 12/1/2024 وحتى اليوم على المناطق داخل اليمن في منع القوات المسلحة اليمنية من تنفيذ “واجباتها الدينية والأخلاقية والإنسانية في دعم وإسناد الشعب الفلسطيني المظلوم”؛ لا بل وصلت الصواريخ الحوثية إلى إيلات نفسها لتكسر حاجز المسافة الجغرافية بين اليمن وفلسطين، وانتقل الصراع – وفق تعبير زعيم الحركة عبد الملك الحوثي – “بحمد الله من حرب مع الوكيل إلى حرب مع الأصيل”، ويقصد بذلك الولايات المتحدة الأمريكية وحلفها الغربي.

وعلى الرغم من أن واشنطن جعلت من الحرب مواجهة أمريكية – يمنية مباشرة، إلا أنها أخفقت في فك ارتباط “وحدة الساحات”، حيث تؤكد مواقف وتصريحات وبيانات القوات المسلحة اليمنية بأن عملياتها “في البحرين الأحمر والعربي لن تتوقف إلا عند توقّف العدوان ورفع الحصار عن الشعب الفلسطيني في قطاع غزة”، وأنها “ستكون بالمرصاد لكل سفينة صهيونية أو أميركية أو بريطانية”، وأن “القادم سيكون أشد إيلامًا ووجعًا ومتجاوزًا كلّ التوقعات في المواجهات البحرية مع ثلاثي الشر أميركا وبريطانيا و”إسرائيل”، وفق تصريح وزير الدفاع اليمني اللواء الركن محمد ناصر العاطفي.

إنها حرب أمريكية – يمنية بكل ما للكلمة من معنى، ويبدو أنها لن تهدأ في الأفق المنظور، بل ستذهب إلى التدهور أكثر فأكثر لسبب رئيسي وجوهري، وهو أن لا وجود لمشتركات بين الطرفين يمكن الاتفاق عليها، فاليمنيون يكنّون العداء السياسي والعقائدي المطلق لأمريكا وإسرائيل، ولن يوقفوا استهدافهم للسفن في البحر الأحمر إلا بعد وقف العدوان على الشعب الفلسطيني ورفع الحصار عنه، في حين أن أمريكا تقارب المسألة بمنظار اقتصادي – تجاري يحمل أبعاداً أمنية تتّصل بأهدافها لإبقاء هذا الممر الحيوي تحت هيمنتها ربطاً بأجندة استراتيجية تحافظ من خلالها على تفوّقها النوعي، وتثبت هيمنتها على الشق الشرقي من دول العالم.

تشير التطوّرات الميدانية على جبهة البحر الأحمر إلى أن الإدارة الأمريكية قامرت بالاندفاع نحو المواجهة المباشرة مع اليمنيين، وخسرت رهانها في التقليل من ردّة فعل حركة “أنصار الله” على المستويين العسكري والأمني، لا بل أسهم العدوان الأمريكي في التفاف عارم للشعب اليمني خلف قيادة الحركة، وفي استقطاب عدد من الأحزاب والتيارات الحيادية في الداخل نحو مناصرة الحوثيين؛ وكما فشلت في عسكرة الملف فهي فشلت أيضاً في تسويق مقولة “تهديد الأمن العالمي” الذي يشكلّه الحوثيون، وهي تعلم أنها لن تستطيع توسيع دائرة عدوانها لأن ذلك ينذر وفق المؤشرات باحتمال تدحرج الوضع إلى حرب إقليمية غير محسوبة العواقب، خصوصاً أن الجبهة المشتعلة في كل من قطاع غزة وجنوب لبنان لا تزال تلقي بثقلها على المسرح الميداني، وتضيّق أفق الخيارات أمام واشنطن وتضعها على سندان الحرب الشاملة أو التراجع القسري.


Related Posts


Post Author: SafirAlChamal