صادق مجلس النواب على الموازنة العامة بعد إدخال بعض التعديلات عليها، بالرغم من الانتقادات الكثيرة التي وجهها المتحدثون إليها والى الحكومة التي أرسلتها، ما يؤكد لجوء عدد لا يستهان به من النواب الى شعبوية عبر الهواء مباشرة إما لاستعادة شعبية، أو لتصفية حسابات سياسية أو لتسجيل نقاط على الحكومة، فيما الكل يدرك أن هذه الموازنة هي أفضل الممكن في ظل الظروف الراهنة، وقد ترجم ذلك بتصديقها.
كانت الجلسة النيابية شاهدة على قراءتين لهذه الموازنة:
قراءة مغرضة شعبوية غير منطقية تسيء الى الدولة اللبنانية والى المتحدثين أنفسهم، خصوصا أن أصحاب الانتقادات غير الواقعية هم أساسا من أركان هذه الدولة وهم المسؤولون عن موازنات سابقة أوصلت البلاد الى الدرك الأسفل من جهنم والذي فرض على الحكومة وضع هكذا موازنة لتأمين سير المرفق العام وتصحيح التضخم الناتج عن الانهيار ووضع البلاد على سكة التعافي بعد أربع سنوات عجاف من الأزمات على كل صعيد، علما أن التصويت على بعض بنود الموازنة أسقط الأقنعة عن بعض منتقديها الذين قاتلوا خلال النقاشات دفاعا عن شاغلي الأملاك البحرية والغرامات التي قد تفرض عليهم، وعن أصحاب الشركات معترضين على نسبة الضريبة على أرباحهم، ما يشير الى تواطؤ واضح مع أصحاب رؤوس الأموال.
وقراءة ثانية، متوازنة أعطت الحكومة حقها لجهة العمل على النهوض ولم تغفل المصاعب الكثيرة التي يواجهها لبنان والتي تحتاج الى موازنة قادرة على التصدي لها من خلال التفتيش عن المداخيل لتأمين مصاريف الدولة والقطاع العام، بما يمهد لانجاز موازنات إصلاحية في السنوات المقبلة.
في حين دعا رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الى عدم تحميل الموازنة أكثر من إطارها العملي، مؤكدا أن “أفق الموازنة هو عام واحد، وإن الاصلاحات المرجوة للنهوض بالاقتصاد تمرّ عبر تشريع قوانين مستقلّة عن الموازنة، كانت الحكومة قد أحالت بعضها الى المجلس الكريم بانتظار اقرارها، والبعض الاخر سيرسل الى المجلس النيابي الكريم في الاسابيع المقبلة.”
وجاءت كلمة الرئيس ميقاتي بعد كلمات لـ41 نائبا، لتعيد تصويب الأمور ولتسحب البساط من تحت أقدام بعض الشعبويين الذين حاولوا القيام ببطولات وهمية على حساب الحكومة، كما رد ميقاتي الصاع صاعين لمن يتهم الحكومة بعدم الشرعية والميثاقية ولمن يتهمها بمصادرة صلاحيات رئاسة الجمهورية، وشرح موقف الدولة من الحرب على غزة ومن تطبيق القرار 1701 والالتزام بقرارات الشرعية الدولية، ومن النازحين السوريين.
وضع ميقاتي النقاط على الحروف، كما وضع كل جهد يُبذل في مكانه الصحيح، وكان حازما مع من يعمل على تشغيل آلة الشتم وقلة اللياقة وإثارة النعرات لضمان بقائه في المشهد السياسي، مؤكدا النأي بنفسه عن الرد عليه كونه لا يستحق لا مديحا ولا هجاء.
وجدت كلمة الرئيس ميقاتي إستحسان عدد كبير من النواب، خصوصا أن المنطق الذي إعتمده فيه الكثير من الوضوح والعقلانية في مقاربة الأمور وطرحها على “بساط أحمدي” من دون تعقيدات، معتمدا الوقائع والأرقام التي كشفت حجم الهدر الهائل في الموازنات السابقة مقابل الموازنات التي أقرت في عهد حكومته، فضلا عن الرقي السياسي في الرد على بعض الاتهامات و”كلمات الحق التي يراد بها باطل”.
هذا التناغم بين ميقاتي وكثير من النواب والناتج عن الكلام في موضعه الصحيح، أزعج النائب سليم عون الذي يبدو أن إشارة وصلته بضرورة تعكير أجواء الجلسة لأن إستمرار ميقاتي بالكلام بهذا الوضوح سيؤدي الى تعرية تكتل لبنان القوي وغيره ممن ينتقدون الحكومة لعدم القيام بواجباتها ثم عندما تقوم بما يمليه عليها مسؤوليتها الوطنية يتهمونها بمصادرة صلاحيات رئاسة الجمهورية فضلا عن تعاطيهم معها على القطعة بحسب مصالحهم، فسارع عون الى الشغب على كلمة ميقاتي الذي كان له بالمرصاد، فيما عمل عدد من النواب الى إسكاته إنطلاقا من هيبة ومقام رئيس الحكومة الذي لا تجوز مقاطعته خلال إلقاء كلمته.
ولم تكن الجملة الأخيرة التي أنهى بها ميقاتي كلامه بأن “إنتخبوا رئيسا وحلوا عنا” بحاجة الى كثير من التفسير، لكنها شكلت مضبطة إتهام لمعطلي ومعرقلي هذا الاستحقاق الذين لا يقدمون مرشحا ولا يتوافقون على مرشح، لا يفسحون المجال أمام حوار قد يفضي الى التفاهم على مرشح، وفي الوقت نفسه يعرقلون عمل الحكومة ويتباكون على الرئاسة وعلى مناصب الموارنة، ثم يمعنون في قطع طريق قصر بعبدا على كل من تسول له نفسه الترشح للرئاسة!..
Related Posts