إنهيار النموذج الآحادي الإنساني!.. بقلم: نزار شاكر

منذ إنهيار الاتحاد السوفياتي، وهيمنة الآحادية القطبية “الأمريكية”، تغنى العالم بهذه الديمقراطية المتحضرة (وانساق المفكرون العرب ومفكرو البلدان النامية وراءها كنموذج)حتى أن الشعب الأمريكي لم يخرج على تلك الايديولوجية “التناغمية” مع السياسة الخارجية والداخلية لأن ذلك كان بنفس السياق، فالشعب راضٍ بهذا المسار ولم يخذله سلوك صناع القرار لديه لا في البعد الأخلاقي ولا في البعد الإنساني إلى حد ما…

مسار إدارة الولايات المتحدة للعالم، وتعاطيها مع العديد من الملفات الساخنة (أفغانستان – العراق – أحداث ١١ أيلول – داعش – إيران- الصراع الفلسطيني الاسرائيلي)، لم يظهر في سلوكه النمط الديكتاتوري الواضح (وإن كان بالخفاء قائماً)، ولم تتجاهل أمريكا البعد الأخلاقي بهذا الشكل الفاضح كما اليوم.

المشهد الأوكراني ملف مهم لأمريكا ولم يظهر فيه هذا الارباك خاصة لتلك الدلالتين المشار إليهما آنفاً، بخلاف التعاطي مع أحداث ٧ أكتوبر في فلسطين، وتداعيات ما قامت به المقاومة الفلسطينية مع الكيان الصهيوني الغاصب.

ما نتج عن أحداث ٧ أكتوبر في فلسطين أخذ أمريكا إلى تلك المشهدية التي تحاكي ذلك القائد المفلس، وكأنه بأدائه يقول: “انقطعت بي السبل ولم يعد لدي أي حيلة من حيل المواربة والمقاربة والمقارنة والمناورة وووو””… بل اكتفى بالانحياز للأداة الإجرامية الصهيونية التي لم تتعامل مع فصائل المقاومة (حماس والجهاد) بفعل ورد فعل، بل كان من الواضح أن هدفها معاقبة البيئة الحاضنة للمقاومة (والتي تسعى لتُقَرِرَ مصيرها بنفسها، وهذا جل ما تصبو إليه كفصائل نضالية، بخلاف إسرائيل الدولة الطامحة لأن تكون دولة عظمى (من الفرات إلى النيل)، وضمن هذا السياق فإنها (أي إسرائيل) لن تترك أي فرصة لاستكمال أهدافها التهجيرية للشعب الفلسطيني، وهي لم تتوقف يوماً عن هذا المخطط (وما توسع المستوطنات إلا خير شاهد على ذلك)، وبالنتيجة ما كان من الجانب الاسرائيلي إلا قتل الأطفال والنساء والعجز وتدمير الحجر، وكأن إسرائيل بذلك تقول “سأحرم هذا الشعب أرضه ووطنه وقضيته وليس له الحق بتقرير مصيره”، وهذا لسان حال الولايات المتحدة الأمريكية بانحيازها.

وبالعودة إلى الجانب الأمريكي وإلى مشهدية أنها مثل ذلك القائد المفلس الذي إنحاز بكليته إلى المسار الصهيوني، نرى أنه ذهب إلى أبعد من ذلك بأن تسلط على القرار العالمي، الذي أراد من خلال الأمم المتحدة أن يصدر قراراً لوقف القتال كهدنة إنسانية (نظراً للمأساة التي يعاني منها الشعب الفلسطيني)، لكن ماذا فعل ذاك القائد، استخدم حق النقض “الفيتو”، وارباك ذاك القائد أيضاً لم يكفه الانحياز والتسلط بل ذهب في سلوكه إلى أسلوب القمع العلني، (وما منع التظاهرات التي تدعو لوقف الحرب ضد الشعب الفلسطيني واعتقال من يهاجم اسرائيل إلا خير دليل على ذلك أيضاً) وأكثر من ذلك فرض الرأي بالقوة والتهديد، فها هي رئيسة جامعة بنسلفانيا تستقيل، بعد أربعة أيام من جلسة الاستماع أمام الكونغرس، على خلفية استدعائها لتفسير موقفها بعد ثورات معادية للسامية (كذلك) في حرم جامعة بنسلفانيا المرموقة. أوضحت إليزابيث ماجيل، مثل زميلتها في جامعة هارفارد، أن الدعوة إلى الإبادة الجماعية يمكن “اعتمادا على السياق” أن تكون متعارضة مع لوائح جامعتها، وخلال سؤالها يراد منها الاجابة (بنعم أو لا، وتحديدا نعم ) دون أي اعتبار لرأيها.

وبالرجوع إلى تداعيات الحدث فإن الصارخ في ما يدور في فلسطين هو أن الاقتتال القائم هو بين دولة قائمة مدعومة من أنظمة العالم وعلى رأسهم أمريكا وبين فصائل مقاومة تُدَعشَن اليوم (ونحن هنا لا ندافع عن حماس، بغض النظر عن صوابية ما قامت به من خَطَئِهِ، بل نسلط الضوء على الحق المشروع للشعب الفلسطيني بأن يكون له دولته المستقلة واسترجاع أرضه المغتصبة. وأي نضال في هذا الاطار مشروع). وللمفارقة أن من يتم دعشنتهم اليوم أي “حماس” كانت منذ العام 2005 إلى ما قبل أحداث 7 أكتوبر، ذلك النموذج الذي يمكن التعامل معه، وتسهل عملية نقل الأموال له كموازنة خاصة للسلطة في غزة من قطر وغيرها، ويتم التفاوض معه حول الغاز المتوقع استخراجه من الأملاك البحرية قبالة شواطئ غزة، لكن وللمفارقة فإن هذا الفصيل (ليس دولة)، لكن تم دعشنته لأنه تخطى المسألة التكيفية وذهب إلى منطلقات نضالية لتحرير أرضه، مع أنه ألمح بقبوله فرضية حل الدولتين والعودة إلى حدود العام 1967 وفق تصريح أحد قادته (والعجيب أن هذا ما تُنادي به أمريكا).

وبالعودة ثانية إلى ذلك القائد المربك (الولايات المتحدة الأمريكية) المنحاز المتسلط والقمعي، فإنه، وبغباء منه قد أحيا الحراك العالمي الإنساني حول فكرة حق الشعوب بتقرير مصيرها، والنضال الوجودي والثوري، وها هي إحدى المذيعات الامريكيات تقول أنا حكماً سأتضامن مع القضية الفلسطينية لأنها تذكرني بقضيتي (الهنود الحمر السكان الأصليين لأمريكا)…

واليوم ومع تنامي النيوليبرالية في أمريكا وتحكمها المطلق بالسياسة الداخلية والخارجية لأهداف مادية بحتة (إحكام السيطرة على مصادر الطاقة – الهيمنة المطلقة على القرار العالمي- التوجيه الاعلامي- التفرد بالامساك بالاقتصاد العالمي)، خاصة من تلك المنظومة المالية التي تراعي الشخصنة بالمطلق، والفرد بالنسبة لها مُستخدم يأخذ بقدر ما يُنتِج، والفائض يضاف إلى رأس المال. ومع غياب الدولة ببعدها السيادي التنظيمي الرعوي وإنهيار المنظومة الأخلاقية: الحريات، المساواة، حقوق الانسان، وحق الشعوب بتقرير مصيرها، التي كانت منطلقات أساسية عند نشأة الولايات المتحدة الأمريكية. والمقاربة التي أشرنا إليها آنفاً عن مشهدية ذاك القائد المربك، الذي يتصرف وكأنه لا حيلة له، بل يذهب في سلوكه نحو الانحياز والتسلط والقمع والإجبار، أتذكر ملابسات إنهيار الاتحاد السوفياتي الذي تصفه الولايات المتحدة الأمريكية بالديكتاتوري، (وهي اليوم ليست ببعيدة عن هذا الوصف)، حين انكب على الانفاق بهدف التسلح ونسي فكرة وجوده كنظام، وخصائص فكرته التصالحية مع شعبه (الحاكم هو الفرد والدولة ترعى هذا الفرد)، وفي السياق الزمني وما قبله فإن من أوائل إنتاج الفكر الانساني السياسي ما أتت به الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية قبل وبعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، كان من منطلقاته وضع تصور لصيغة العقد الاجتماعي الذي يراعي المبادئ التصالحية والتعاقدية بين الفرد والدولة، وبهذا المسار الذي تسلكه أمريكا المتنامي كفعل وردات فعل، ستجد نفسها أمام تحد حقيقي وإشكالية حتمية ألا وهي “إعادة صياغة عقدها الاجتماعي من جديد”،فها هو مُنظّر الدبلوماسية الأمريكية كيسنجر الذي لم يغفل قبل رحيله عن ذلك، حين لمح بأن أمريكا ستسقط أمام التخلي الأخلاقي، وبذلك نكون أمام  إنهيار “النموذج الآحادي الإنساني” الذي أخذ من الانسانية ستار والحرية شعار، وبالحقيقة ما هو إلا منظومة ترتب مصالح مجموعة من التجار، فهل سيبقى هذا النموذج بعد كل تلك الاخفاقات في نظر الكثيرين وجهة ومسار؟.

Post Author: SafirAlChamal