يعدّ سوق العطّارين من أشهر وأقدم أسواق المدينة، التي اشتهرت منذ عقود طويلة من الزمن. فهو يعود إلى نحو 700 سنة مضت نشأ إلى جانبه أسواق أخرى هي: الصّاغة، الكندرجيّة، البازركان، سوق حراج، الدباغة، النحّاسين، والتربيعة المتخصّصة ببيع الموبيليا وسائر أنواع نجارة الخشب، وخان الخياطين وخان الصابون وغيرهم.
نشوء هذا السوق في موقعه الراهن كان مدروسا بعناية حيث شاء حاكم طرابلس المملوكي السلطان الناصر قلاوون بناء السوق في جوار الجامع المنصوري الكبير لإحاطة المصلين بروائح العطور الطيبة وانتشرت فيه محلات العطارة التي تبيع مختلف انواع الأعشاب الطبية والوصفات الشعبية للأمراض كما امتهنوا تركيب الادوية الشعبية وتحضيرها.
مع توسيع السوق وإنتشار المحال الجديدة لم يتبق من السوق سوى اسمه، فهذه المساحة التي يفترض أن تكون مكتظة بمحلات العطارة وبعطورها الفواحة تجتاحها بسطات الخضار والفواكة والمعلبات وتحل مكانها محلات بيع اللحوم والأسماك التي تترك مخلفاتها فتفوح منها رائحة كريهة تفرض نفسها على السوق ما يهدد بكارثة صحية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
على الرغم من هذا الاعتداء على السوق يرفض بعض أصحاب محلات العطارة إغلاق محلاتهم التي بقيت حاملة لإسم السوق، إذ قرروا الصمود فيه حفاظاً على تاريخه كما يستنكر البعض هذه الفوضى.
يقف الحاج احمد العلي البالغ من العمر 60 عاماً بجسده النحيل ولحيته البيضاء، وسط عشرات محلات اللحوم والخضار، ينادي بأعلى صوته “زهورات، مليسة بابونج” لعل أحد المارين يجد طلبه لديه.. فالحاج أحمد يمتلك محلا صغيرا للعطارة يعود تاريخه لأكثر من مئة عام.
“ورثت هذه المهنة عن أجدادي” بهذه الكلمات بدأ الحاج أحمد (صاحب محل العطارة في سوق العطارين) كلامه لسفير الشمال: ويقول: “أعمل في هذا المحل منذ أكثر من خمسين عاماً، وورثت هذه المهنة عن أجدادي.
وأضاف: الكثير من محال العطارة أغلقت أبوابها وإنتقلت الى أماكن أخرى نظراً للفوضى التي حصلت بعد توسيع السوق وقررت البقاء هنا لأحافظ ولو بشكل بسيط على تراث أجدادي وعلى ما تبقى من هذا السوق.
ويشير العطار كمال الشهال الى أن “المشهد كله تبدل، فهذه المحال كانت كلها مختصة بالعطارة ودائما رائحة السوق تبقى معطرة على عكس ما هو عليه الآن وهذا الأمر يزعجني كسائر العطارين الموجودين هنا، ولا أخفى بأنني فضلت توسيع محال العطارة الخاصة بي خارج السوق وآثرت أن أبقي محلا واحدا فقط لي هنا وذلك لسبب عائلي وشخصي.
ويقول الشهال: لم تعد طبيعة السوق تليق بماضيه التاريخي وكأننا نراه يندثر شيئا فشيئا، وقد حاولنا كثيرا التواصل مع البلدية معارضين توسيع السوق بهذا الشكل الجنوني، لكن البلدية لم تكترث وسمحت بوصوله إلى ما هو عليه اليوم حتى الزبائن التي كانت تقصد هذا السوق سابقاً لم تعد تأتي الى هنا بسبب الفوضى.
لعل أسباب توسيع سوق العطارين كثيرة لكن النتيجة واحدة وهي الفوضى في محاولة لإزالة الوجه التاريخي لهذا السوق. نداءت متكررة وجهت لبلدية طرابلس بالتحرك لكن لا مجيب، بالرغم من أهمية هذا السوق المتخصص الذي يشكل تاريخاً حضاريًا مهماً لطرابلس، فهل تنفع الدعوات لإعادته الى سابق عهده وإعادة زمن العطارة وصيانة آثاره الضاربة في عمق التاريخ؟.
Related Posts