يقول المؤرّخ البريطاني أ. ج. ب تايلر في معرض تحليله لأسباب الحرب العالميّة الثّانية، أنَّ الحروبَ لا تختلفُ كثيرًا عن حوادثِ السّير، إذْ لها أسبابٌ عميقة وأخرى خاصّة؛ وعادةً أوّل ما تتفحّصُ الشرطة الأسبابَ الخاصّة كتصرّفِ السّائق وحالته النّفسيّة وغيرها، دون الانتباه الى الأسباب العميقة مثل اكتشافِ عطلٍ خفي في السيّارة وما الى ذلك.
هذه المقاربة ليست بالمقاربة السّيّئة للأخذِ بعين الاعتبار لدى تحليلِ أسبابِ الحرب الاسرائيليّة في غزّة. فهل تكونُ “قناة بن غوريون” سببًا عميقًا من أسباب حرب اسرائيل على أرض غزّة؟
منذ قديم الزّمان، كانت الممرّات المائيّة تشكّلُ أهميّةً استراتيجيّة كبيرة بحيث تتحكّم في طرق التّجارة العالميّة ومكانة الدّول من النّاحية الجيوسياسيّة. وقد ازدادت أهميّة المضائق والممرّات البحريّة اليوم أكثر من أيّ وقتٍ مضى؛ بسبب التّهديدات المتصاعدة للملاحة عبرها، والّتي نتجت عن حالة الاحتقان والتّأزّم في العلاقات بين دول الإقليم من جهة، وبين بعض القوى الإقليميّة والقوى العظمى من جهةٍ ثانية؛ الأمر الّذي دفع القوى العظمى لإطلاق المبادرات، أو إبرام الاتفاقيّات مع الدّول المطلّة على المضائق والممرّات البحريّة.
فما بالكُم إِذا كان هذا الممرّ يقعُ في “منطقةٍ عربيّة” تزخرُ بثرواتٍ هائلةٍ من البترول والغاز الطّبيعي؟ وماذا إذا كان هذا الممرّ أيضا يقعُ ضمن “منطقة اوراسيا” وفق نظريّة البروفيسور الهولندي الأمريكي “نيكولاس سبيكمان” أن من يسيطر على اوراسيا، يسيطر على العالم بأسره”؟
وهذا هو الحال مع قناة “بن غوريون” وهي قناة تقعُ بالقربِ من غزّة، و تربطُ البحرين الأبيض والأحمر. وفكرة بن غوريون ليست حديثة، ففي عام 1963، سعت الولاياتُ المتّحدة إلى استحداث ممرٍّ اقتصادي من خليج العقبة حتّى حيفا المحتلة، من خلال الاستفادة من “قناة بن غوريون”؛ إلّا أنّها لم تنجح في القيام بذلك، لصعوباتٍ لوجستيّة تمثّلت في الحاجة إلى التّعامل مع 380 كلم من التّضاريس القاسية، الأمر الّذي كان سيرتّبُ عليها استخدامَ القنابلِ النّوويّة لتكسير الْجبال، وسيؤدّي إلى صعوباتٍ في التّنفيذ، وتكاليفَ باهظةٍ جدًّا، ما حدا بواشنطن إلى “وضع الفكرة على الرّف”، “مؤقّتاً” ربّما، وتحيّن الفرص لإعادة شقّ هذه القناة فيما بعد. ومع الصّعود الصّيني الّذي لم يعتبرْه الأمريكيّون أَنّه مجرّد نهوض اقتصادي بريء من أيّ أطماع جيوسياسيّة، وخاصة بعد مبادرةِ “الحزام والطّريق”، عاد اهتمامُ الولاياتِ المتّحدة يتوجّه نحو قناة “بن غوريون”.
في البحث عما يمكن أن يشكّل السّبب الأساسي لمبادرة “الحزام والطريق”، لا بدّ من التّطرّق لمعضلة، ومضيقُ ملقا، هو ممرّ مائي ضيّق يقعُ بين ماليزيا واندونيسيا وســنغافورة، Malka Dilemma ملكا، ويربـطُ بـين المحيطـين الهندي والهـادي، وبحـر الصّين الجنوبي.
ولأنَّ الصّين دائمة التخوّف من أنْ تتحكّم الولاياتُ المتّحدة الأمريكيّة بمضيق ملكا، بالأخصّ أنَّ 60% مـن نفط بكين المسـتورد، و 80% من التّجارة الصّينيّة مع أوروبا تمرّ عبره، ما يعني أنّه لو توقّف هذا المضيق أو أُغلِق، اختنقَت الصين وتعرضّت للشّلل التّام، فقد سعت الصين إلى التّفتيش عن طرقٍ بديلة. كانت بدايتُها حفر قناة في نيكاراغوا، وقد موّلت الصين ب 50 مليار دولار هذا المشروع، ولكنّه تعطَّل حاليا بسبب الضّغوطات الأمريكية على نيكاراغوا، كذلك بالنّسبة لقناة “بانما”، وقناة “كارا” في تايلاند.
كما وضخّت الصّين استثماراتٍ هائلةً في البنية الأساسيّة في القطب الشمالي ، لأنه 25% من مخزون العالم الّذي لم يكتشف بعد من النّفط والغاز موجود في هذا القطب. وفي عام 2013، أطلقت الصين مبادرة “الحزام والطريق”. وفي هذه المبادرة “الذّائعة الصيت”، يشكلّ بحر عُمان وخليج عدن والبحر الأحمر ممرًّا محوريًّا لطريق الحرير البحري وللتّجارة الصّينيّة نحو أوروبا عبر قناة السويس. كما وأبرمت الصّين اتفاقية عام 2017 مع جيبوتي لبناء قاعدة لها في هذه الدّولة ذات الموقع الاستراتيجي في جنوب البحر الأحمر والمطلّة على مضيق باب المندب، واستثمرت في مضيق هرمز مليارات الدّولارات في خطوط أنابيب النّفط، ومحطّات التّخزين على طول الخليج العربي، الأمر الّذي أثار مخاوف مسؤولي الأَمن القومي الأمريكي، وتعاظمت مخاوفهم بعد الاتفاق الإيراني – الصيني، الّذي وُقِّع عام 2021، للتعاون التّجاري والاستراتيجي. وهكذا فقد استطاعت الصّين من خلال ” الحزام والطريق” أن تكون “صانعة للعولمة”، لا مجرّد مشاركة فيها.
كيف برأيكم للولايات المتّحدة أنْ “تتلقّف” توسّع الصّين للتّحكم بدّفة العالم؟
كان لا بد لأمريكا التي أربكتها هذه المبادرة أنْ تفكّر بمبادرة مضادّة لسحب البساط من تحت أرجل الصّين.
وفي عام 2022، أعلنت مجموعة الدّول السّبع مشروع “الشراكة العالميّة في البنية التحتيّة والاستثمار”
“Global Partnership in Infrastructure and Investment”
والّذي يهدف إلى جمع 600 بليون دولار من التّمويل العام والخاص للبنية التحتيّة بحلول العام 2027.
و”مشروع الشراكة العالميّة في البنية التحتيّة والاستثمار” هو عبارة عن عدّة مشاريع، من بينها مشروع “الممر الاقتصادي”، وهو ممرّ يصل الهند ودول الخليج عبر “اسرائيل” باوروبا، وقد كشف النقاب عنه خلال قمّة العشرين في مدينة نيودلهي في الهند. ويهدف هذا المشروع أي “الممر الاقتصادي” الى “تخريب مبادرة الحزام والطريق الصينيّة
ويتكوَن المشروع من مسارين رئيسيين: مسار شرقي يربطُ بين الهند، والإمارات العربيّة المتحدة، والمملكة العربية السّعودية عبر البحر الأحمر، حيثُ تنطلق السّفن من موانئ مومباي ونيودلهي وكولكاتا إلى ميناء جدّة في المملكة العربية السعودية، ومن ثم إلى أوروبا، أو إلى دول الخليج العربي، عبر البحر الأحمر وقناة بن غوريون؛ ومسار اخر شمالي يربطُ بين الإمارات العربيّة المتّحدة، والمملكة العربية السّعودية والأردن وإسرائيل عبر البر، حيث تنطلق القطارات من مدينة حفر الباطن في المملكة العربية السعودية، إلى أوروبا عبر تركيا وبلغاريا، أو إلى دول الشّرق الأوسط عبر الأردن وسوريا.
ويحقّق المشروع منافعَ جمّة لجميع الأطراف.
من ناحية الكيان الصهيوني، إن %63 من تجارة إسرائيل تعبر قناة السّويس. لذا، فإنّ هذا الممرّ عبر قناة بن غوريون هو أقرب وأسهل لها، إذ تبلغُ المسافة بين إيلات والبحر المتوسط عبر قناة بن غوريون حوالي 100 كيلومترًا، بينما تبلغُ المسافة بين السويس والبحر المتوسط حوالي 193 كيلومترًا، ممّا يعني أنّ قناة بن غوريون ستقصّر المسافة الّتي تقطعها السفن من آسيا إلى أوروبا بحوالي “93 كيلومترًا”.
كما أنّ السّفن تحتاج لحوالي 12 ساعة لعبور قناة السويس، بينما تستغرقُ حوالي 6 ساعات لعبور قناة بن غوريون، ممّا يعني أنَّ قناة بن غوريون ستوفّر للسّفن حوالي “6 ساعات” من الوقت. ومن ناحية ثانية، إنّ الممرّ يسمح لاسرائيل باندماج أكبر في منطقة الشّرق الأوسط، من خلال اقتصادها، وخدماتها، ولوجيستيّاتها.
الممرّ المحتمل الجديد سيزيد من الأهميّة الجيوستراتيجيّة لدول الخليج ويضعها في صلب التّجارة الدّوليّة. وبالنّسبة إلى المملكة العربيّة السّعودية الّتي هي طرف أيضًا في الحزام والطريق، فإن الممرّ يسمح لها ببناء علاقة متوازية مع كلّ من الصين والولايات المتحدة الاميركية، ويحول دون أنْ يكونَ مصيرُ تجارتِها متعلّقاً حصريًّا بطرف معيّن.
وبالنّسبة إلى الغرب وأوروبا، فهي تستفيدُ من دفع الهند لتحلَّ محلّ الصين، وتكون مصنع العالم.
أمّا بالنّسبة إلى الولايات المتّحدة، فستحصل على التّمويل من الخليج، وتعمل على دمج اسرائيل في المنطقة، لتتفرّغ إلى هدفها الأهمّ وهو “محاربة الصين” ، في ما يتعلّق بقضيّة تايوان.
لكن، لكي يتمّ ذلك، لا بدّ لها من أنْ تصبحَ غزّة “إسرائيلية”. لذا، فإنّ مشروع “الممرّ الاقتصادي” لا يمكن أن يبصرَ النور، إلّا بعد إحياء مشروع “قناة بن غوريون” لتكون البديل “الآمن” عن قناة السويس، مع ما يتطلّبه ذلك من استكمال مسيرة “الّتطبيع” العربي مع “إسرائيل”، إضافة إلى جعل غزة “إسرائيلية” بالكامل. هنا تبرز أسئلة عدة لجهة: ما هي قدرة خصوم أمريكا، وحلفاء بكين في الوقت عينه على تأمين صمود غزّة، وتوجيه ضربة سياسيّة اقتصادية إلى واشنطن وتل أبيب؟
وما هو الموقف الصّيني في حال نجحت إسرائيل، وخلفها أميركا، من السّيطرة على غزّة، والمباشرة بمشروع “قناة بن غوريون”؟
وكيف سيكون شكلُ العالم في حال تحقيق أي من السيناريوهين: الصّيني أو الأمريكي، مستقبلاً؟
والأهمّ، هل أصبحَ الشّرقُ الأوسط مجرّد مسرحٍ للصّراع الصّيني – الامريكي؟ وهل أضحت دماءُ الفلسطينيين رخيصةً لهذه الدرجة لتكونﹶ الوسيلة الّتي من خلالها يتمُّ فتح ” قناة بن غوريون”؟
الكاتبة: الدكتورة إيمان درنيقة الكمالي
باحثة سياسية وأستاذة جامعية
Related Posts