فنُّ جبران فضاءٌ للاندماجِ الثّقافي…بقلم: الدكتورة إيمان درنيقة

لم يكنْ فنُّ جبرانَ موهبةً حفّزها الطّموحُ وغذَّتْها الثّقافةُ والعملُ الدّائب فقط، وإنْ حَظِيَ بشعلتَي الِابداعِ والطّموح.

ولا كان فنُّه مجرّدَ مرآةٍ تعكسُ صُوَرًا من عصرِهِ وظلالًا من نفسيّتِه، وإن كشفَت بعضَ خفايا الكاتب وعصرِه.

بل هو فنٌّ تخطّى العصرَ، وتجاوزَ الواقع، وعَبَرَ الحدودَ الجغرافيّة والثّقافيّة، وربطَ النّاس – ولو من خلفيّاتٍ مختلفةٍ – في بَوْتِقَةٍ واحدة، هي بوتِقَةُ “الوحدةِ في التّنوّع”. 

وإذا الفضاءُ الإلكترونيّ (السّيبرانيّ) – بالنّسبةِ للكثيرينَ – أهمُّ اكتشافاتِ البشريّة إذ أتاح لأكثرَ من 5.16 مليار شخصٍ الاتّصالَ

والتّواصلَ عبر شبكةِ الانترنت، فـ”الفضاءَ الجبرانيّ” سبقَ الفضاء الإلكترونيّ بكَونه – قبل قرنٍ ومن دون تكنولوجيا الاتّصالات – عبَرَ  مختلف الدّياناتِ والثّقافاتِ والأعرافِ والأجناس، ونظرَ إلى ما وراءَ الِاختلافاتِ السّطحيّة، وحملَ رسالةَ التّسامحِ وقِيَمَ الحرّيّةِ والعدالة، وعملَ على قوّةِ الحبِّ والرّحمةِ في توحيدِ البشريّة.

من قمة بشري إلى قمة الخلود

من بلدةِ بشرّي المتكِّئةِ على كتفِ وادي قاديشا، بجوارِ الأرضِ المقدّسةِ حيث تتفجّرُ الأرضُ لتُنبِتَ الخضرةُ والزّهر، ويسيلُ النورُ البنفسجيُّ بين دقائقِ الأثير ِوترصِّعُ حبّاتُ المطرِ الحقولَ كلآلئَ منثورةٍ من تاجِ عشتروت، وتتعانقُ أشجارُ اللّوزِ والتّفّاحِ والبيلسان، شقَّ جبرانُ طريقَهُ رغمَ العوائقِ والمثبّطات ليصلَ إلى الولاياتِ المتّحدة الّتي ساعدت على فتقِ قريحتِهِ وإطلاقِ مشاعرِه.

عزّزَ جبرانُ ثقافَتَهُ بالمطالعةِ وباحتكاكِهِ فكريًّا مع أدباء وفلاسفة من الأوساطِ الفنّيّةِ والأدبيّة، أمثال ويليام بلايك وإمرسون. وكان بطبيعتِهِ ليّنَ الجانب. وهوذا توفيق صايغ في “أضواء جديدة على جبران” من مقدّمةِ الدّكتور ثروت عكاشة لكتابِ “النّبيّ” الّذي نقلَهُ إلى العربيّةِ واكتسبَ العبارة من بحثٍ للكاتبِ الفرنسيّ جان لوسارف، يشير إلى نجاحِ جبران في الاتّصالِ بالعظماء وقدرتِهِ على كسبِ التِفاتِهِم وصداقتِهِم. وكان جبران يعتبرُ أنّ ميزتَهُ الأساسيّة كانت “المشاركة الوجدانيّة الّتي تتخطّى الفروقَ، وتسمو على الاختلافات، وتُعِينُهُ على فهمِ كلّ بيئة بالتّلاؤم معها حتّى لا يبدوَ أجنبيًّا فيها أو يشعر أنّه غريب”. 

وبالرّغم من جمالِ طبيعةِ لبنان لم يكتفِ جبرانُ بها مصدرًا لصورِهِ بل اقتحمَ منابعَ جديدةً وبعيدة، وسعى في تفكيرِهِ كما في تصويرِهِ أن يكونَ غيرَ محدودٍ في بيئةٍ أو زمان. طرَقَ الميتولوجيا وأساطيرَ الشّعوب البعيدة والقريبة، فجاءت “عرائس المروج” و”بنات البحر” و”عذارى الغاب”، وفتحَ كتابَ التّاريخ على مصراعَيْه واستعرض صورَ العظماء: هيلانة وكليوبترا، هوميروس وفيرجيل، قيس والموصليّ، وخاطبَ الآلهة اليونانيّة: أوتربي وأوراتو، ملبومين وأورفيوس، واستحضرَ إيزيس وعشتروت والعنقاء الّتي ترتفع فوق الرّماد، فحفلَتْ كتاباتُهُ بصورِ الهياكل والأسوارِ والأعمدة الرّخاميّة والمباخر والشّموع وروائح المرّ واللُّبان.

أفكاره في الدّين والسّياسة والوطنيّة

آمنَ جبران بإخاءِ البشرِ ووحدتِهِم وتساويهِم في الأصلِ والهدفِ والقيمة، فدخلت هذه الأفكارُ في جميعِ كتاباتِه الصوفيّة وغيرِ الصوفيّة. ها هو يقولُ في “العاصفة” أنّ “النّاسَ من جبلةٍ واحدةٍ ولا يختلفُ بعضُهُم عن بعضٍ إلّا في المظاهرِ الخارجيّةِ الّتي لا يُعتدّ بها”، ويقول في “صوتِ الشاعر”: “أنت أخي وكلانا ابنا روحٍ واحدٍ كلّيّ”. وحين رأى أحدَهم “باسطًا أجنحتَهُ السّوداءَ والأنانيّةُ تخنقُ في الإنسانِ كلَّ عاطفةٍ إنسانيّة” ردّدَ أنشودةَ المحبّةِ وخاطبَ قريبَهُ قائلًا: “أنت أخي وأنا أحبّكَ، لماذا إذن تخاصمني”؟ 

ورأى أنْ بالتَوق إلى الكمالِ والنّموِّ المستمرِّ يتساوى البشرُ رغمَ اختلافِهِم، سواءٌ كانوا في بداية سعيهِم أقزامًا يغشى عيونَهُمُ الضّباب أو في وسطِ الطّريقِ رجالًا بلغوا مقدارًا من المعرفةِ أو في نهايةِ الطّريق أزهارًا مجنّحةً ناظرةً إلى الشّمس، فعبَّرَ عن الوحدةِ الّتي تجمعُ بين البشر بصورةِ الشّجرةِ الّتي تمتدُّ جذورُها في ظلماتِ الأرضِ وترتفعُ أزهارُها نحو نورِ السّماوات. الأزهارُ هي النّفوسُ الّتي بلغَتِ الدّرجة العليا من المعرفة فيما الجذورُ لا تزالُ في الظّلمة؛ ويؤكِّدُ جبرانُ أنَّ جميعَها أقسامُ شجرةٍ واحدة، ترتبطُ بهدفٍ واحدٍ وتنتظرُ غدًا واحدًا.  

واستهوَتْ جبرانَ المبادئُ الصّوفيّة بما فيها من فضائلَ اجتماعيّةٍ إنسانيّةٍ تسدُّ حاجةَ المجتمعَين الغربيّ والشّرقيّ على السّواء. ورأى في التّصوّفِ صلةً مباشرةً بين الإنسانِ والمطلق، يجعلُ الدّينَ تجربةً ذاتيّةً لا مجموعةَ قوانينَ مفروضة على البشر. فجبران، كما الصّوفيّون، يؤمنُ بوحدةِ الأديانِ: “إذا جرّدنا الأديانَ ممّا يتعلّقُ بها من الزّوائدِ المذهبيّةِ والاجتماعيّة، وجَدْنا دينًا واحدًا”. فالأديانُ، في رأيهِ، نظيرُ الأفرادِ والشّعوب، ذاتُ جوهرٍ واحد.

أمّا وطنيّتُه فتسيرُ في اتّجاهٍ إنسانيٍّ غيرِ محدودٍ ببيئةٍ أو زمان. إنَّها الوطنيّةُ الإنسانيّةُ الّتي تستنكرُ العدوانَ والطّمعَ في أيِّ مكانٍ حصل هذا العدوان: “إِعفني من مادّةِ السّياسةِ وأخبارِ السّلطة لأنّ الأرضَ كلَّها وطني وجميعَ البشرِ مواطنيَّ” (…) “إذا ما هبَّ قومي مدفوعين بما يدعونَهُ وطنيّة وزحفوا على وطنِ قريبي وسلبوا أموالَهُ وقتلوا رجالَهُ ويتّموا أطفالَه ورمّلوا نساءَه وسقَوا أرضَهُ دماءَ بنيه… كرهتُ إذذاك بلادي”. وأين نحنُ اليوم من حكمةِ جبرانَ في حروبِ قتلٍ وتدميرٍ  نشهدُها اليومَ في العالم، وهي حروبٌ عبثيّةٌ تنتهي كما قالَ جبران حين “يتصافحُ القادة وتبقى تلكَ الأمّ تنتظرُ ولدَها الشّهيد”.

الرّابطة القلميّة ونفْحُ الحياة في اللغة

كان جبران الضّوءَ الّذي صبَتْ إليه أبصارُ المهاجرين من الأدباء اللّبنانيّين في نيويورك وغيرِها من مدنِ الولاياتِ المتّحدة، فانضموا إليه وأسّسوا “الرّابطة القلميّة” فأنشأُوا بها أدبًا مهجريًّا نظَر في مشكلات الإنسان والمصير، وغاص في أسرارِ الطّبيعةِ والاندماج بها، وحقَّقَ نجاحًا وانتشارًا بالغَين، وفاق في أهمّيّته ومستواه ما أنتجه الأدباءُ في لبنان، كما جاء في كتاب “الشّعرِ العربيّ في المهجرِ الأميركي” بأنْ في الرّبعِ الأوّلِ من هذا القرن صدرَتْ في الولاياتِ المتّحدة 79 جريدةً أو مجلّةً عربيّة، وفي المكسيك 17، وفي البرازيل 95، وفي الأرجنتين 58، وفي تشيلي 8، عدا ما صدرَ في أقطارٍ أخرى من المهاجِرِ اللّبنانيّة.

أعمال جبران الأدبيّة 

شكّلَت أعمال جبران فضاءً للتّفاعلِ الانسانيّ على أكثر من مستوى، وبَوَّأَتْه موقعًا فريدًا كجسرٍ بين الثّقافاتِ الشّرقيّةِ والغربيّة، وبين الرّمزيّةِ والمثاليّة، وهو الّذي كان يكتبُ بالبصرِ كما لو كانَ يرسم.   

“النّبيّ”

 

هو أحد روائعِ جبران. جذبَ جمهورًا واسعًا واكتسبَ شعبيّةً هائلة ومتابعةً كبيرة عبر الثّقافاتِ والأجيال المختلفة. ويُعتبر عملًا محوريًّا في القرنِ العشرين، ومن أكثرِ الأعمالِ مبيعًا وأكثرِها ترجمةً على الإطلاق (بلغَ عددُ الإصداراتِ المترجمة من هذا الكتاب حتّى اليوم 113 إصدارًا مختلفًا).

صدر الكتابُ عام 1923 لكن جبرانَ بدأ يخطط له منذ 1912، أي قبلَ صدورِهِ بـ 11 سنة وكان يسمّيه “كتابي”.  

هو لوحات شعريّة عن “المصطفى” الذي عاشَ 12 سنة بين سكّانِ أورفاليس، وقبل عودتِهِ إلى جزيرة مولده اجتمعَ حوله السكان من جميعِ الأعمارِ والمكانةِ والجنس باحثين عن إجاباتٍ لنضالاتِهِم وأهدافٍ لمساعيهم. 

وضع جبران هذا الكتابَ لجميع الأجيال في 26 فصلًا 26 حول أمور شاملة عن جوانبَ من الحياةِ لا يملّ النّاس من بحثِها وتداولِها مهما اختلفَت عصورُهم وبيئاتُهم، أهمُّها: الحبّ، الزّواج، الأولاد، العطاء، المأكل والملبس، العمل، القوانين، الحرّيّة، الجريمة والعقاب، الفرح والحزن، العقل والهوى، اللّذة والألم، التّعليم، الصّداقة، الجمال، الدّين والموت. وفي هذه الفصول جمع جبرانُ خلاصةَ تفكيرِهِ الصّوفيّ والاجتماعيّ وأودعها بما يرضي حالمين لا يستطيعون ركوبَ أجنحةِ الأثير ليعاينوا وحدانيّةَ الحياةِ وتَعَانُقَ الأضداد، وضمَّنها ما يفيدُ واقعيّين يجدون في كلٍّ من فصولِه حِكَمًا وتوجيهاتٍ عمليّةً تشدّدُ عزائمَهم وتمنحُهُم هدايةً وطمأنينة. وهي مما يتردَّدَ صداها بسهولةٍ في قلبِ كلِّ إنسان بعيدًا عن أيّ محدِّد ثقافيّ أو اجتماعيّ أو أيِّ قيدٍ تعليميّ أو ماليّ. فعن الأولاد، يقول: “أولادُكم ليسوا لكم .. أولادُكم أبناءُ الحياةِ المشتاقةِ إلى نفسِها، بِكُم يأتون إلى العالم ولكن ليسَ منكم.. ومع أنَّهم يعيشون معَكَم، فهم ليسوا مُلْكًا لكم”. ولسنا بحاجةٍ إلى أن نكون من دينٍ معيّنٍ أو أن تكونَ لدينا خلفيّةٌ معيّنةٌ للِاعتراِف بما هو موجودٌ في هذه السّطور. وهكذا استطاعَ جبرانُ أن يكسِرَ حواجزَ اللّغةِ والثّقافةِ ويحذفَ أيَّ تمييز، رابطًا جميع النّاس في أقاصي الأرضِ من خلالِ كتاباتِهِ ودروسِها العميقة.

يسوعُ ابنُ الانسان  

في هذا الكتاب يعرضُ جبرانُ شخصيّةَ المسيحِ بطريقةٍ مبتكرة، متحدثًا عنه بلسانِ مَن عرفوه وينقلُ لنا انطباعاتِهِم عنه. منهم عبرانيّون ومنهم رومانيّون، كهنةٌ وعلمانيّون، جنودٌ وشعراءُ وفلاسفة، نساءٌ ورجال، وحتّى من أصدقاءِ المسيحِ وأعدائِهِ على حدٍّ سواء. هكذا جمعَ وجهاتِ نظرٍ مختلفةً ممن عاشوا في زمنِ يسوع لإنشاءِ صورةٍ كاملةٍ له تتماشى وأسلوبِ الكتابةِ الخاصّ به.

أهمية هذا الكتابِ أنَّ لديه قدرةَ المساهمةِ في التّكاملِ الثّقافيّ بكشفِهِ وجهاتِ نظرٍ متنوّعة عن يسوع، بالجمع بين شخصيّاتِ من خلفيّاتٍ مختلفةٍ وتقديمِ تفسيراتٍ بديلة، فيفتحُ الكتابُ الحوارَ ويشجّعُ على فهمٍ أوسعٍ لحياةِ يسوع وتعاليمه. إنّه يتحدّى الافتراضاتِ ويحثُّ القُرّاء على دراسةِ مفاهيمِهِم المسبقةِ بشكلٍ نقديّ، وتعزيزِ المشاركةِ بين الثّقافاتِ وتقديرٍ أكبرٍ للتّعابير المجتمعيّةِ المختلفة.

وفي حين أنَّ التّأثيرَ المحدّد قد يختلف، فإنّ “يسوعَ ابن الإنسان” لديه القدرة على تفعيلِ الاندماجِ الثّقافيّ من خلالِ تعزيز التّعاطفِ والاحترامِ والتّقدير المشتركِ لوجهاتِ النّظرِ المتنوّعة حول شخصيّةٍ ذاتِ أهمّيّةِ عالميّة.  وبمصطلح “ابن الإنسان” حاول جبران “أَنسنة” يسوع

وإبرازَهُ رمزًا إنسانيًّا عامًّا للبشريّة كلِّها لا لطائفةٍ أو دين أو مذهبٍ بعينه. وحاولَ التّأكيد أنْ مهما اختلفتِ الانطباعات ووجهات النّظر لا بدَّ منَ التّركيزِ على رسالةِ المسيح الإنسانيّة الفذّة عوض الانصرافِ إلى مجادلاتٍ عقائديّة عقيمة تُلهي النّاس عن مضمونِ تلك الرّسالة وتأثيرِها في حياةِ البشر.  

حديقة النّبيّ

صدر هذا الكتاب عام 1933، مجموعَ مقالاتٍ نصوص تستكشفُ جوانبَ مختلفة من الحياةِ الروحانيّة. واصلَ فيه جبرانُ سردَ المصطفى الّذي شاركَهُ حكمتَهُ ورؤيتَهُ في “النّبيّ”، فيعود ليُضفي تعاليمَهُ حول مواضيعَ مثلَ الحبِّ والصّداقةِ والجمال والحُزن والحرّيّة والدّين.     وتُقدِّمُ هذه الأمثلةُ لمحةً عن الحكمةِ والأفكار الّتي ينقلُها جبرانُ في “النّبيّ”، ويتعمّقُ كلُّ فصلٍ في الرّؤى والتّعاليمِ العميقة للحياةِ والوجودِ البشريّ، ويقدِّمُ الإرشاد والإلهام للقرّاء، ويشجِّعُهُم على التّفكير في مختلفِ جوانبِ الحياةِ ووجودِها. 

الأرواح المتمرّدة

صدر سنة 1908، وفيه 4 قصص عّبرَ فيها جبران عن رغبتِهِ في سدِّ الفجوات الثّقافيّة وتعزيزِ الوحدة من خلالِ الفرديّة، مركزًا على التّنوّعِ الثّقافيّ، ورفضِ التّوافق والخضوعِ لضيقِ الأفق أو التّحيّز، واستكشافِ الرّوحانيّة والتّصوّف، والتّأكيد على الحبِّ والرّحمة. إنها رؤْيتُهُ لعالمٍ يحتضنُ فيه الأفرادُ تفرُّدهم بينما يتواصلون مع الآخرين على مستوًى أعمق.

الموسيقى

هي النبذة الأولى من كتبه العربية. صدر سنة 1905 وفيه ببلاغتِهِ الشّعريّة وأسلوبِهِ الغنيّ بالصّورِ والاستعاراتِ ولغتِهِ المفعمة بالأحاسيس والذّكريات ملامح عن ألحان النّهاوند والصّبا وأنغام النّاي والقيثارةِ والأناشيدِ الرّهاويّة والعتابا البعلبكيّة، ما يمكّنَ القرّاء منَ التّواصلِ مع جوهرِ أفكارِهِ خارجَ أيِّ سياقٍ ثقافيٍّ أو مجتمعيّ محدّد، والارتباطِ بكلماتِهِ وتفسيرِها بطرقٍ مختلفةٍ وفريدة، الأمرُ الّذي يعزّزُ الشّعور بالعالميّة. 

رمل وزبد   

مجموع أقوال موجزة تطرّقَ بها جبرانُ إلى مواضيع مثل عدمِ ثباتِ الممتلكاتِ المادّيّة، والبحثِ عن الحقيقةِ والحكمة، وأهمّيّةِ التّأمّلِ الذّاتيّ، وقوّةِ الحبّ والرّحمة. وكلمات جبران تشجّعُ القُرّاء على اعتناقِ جمالِ الحياةِ وعبورِها مع إدراكِ الحقائقِ العميقةِ الّتي يمكنُ العثورُ عليها في أبسطِ الأشياء، إلى التّجاربِ الإنسانيّةِ المشتركةِ للحبّ والفقدان والشّوق والبحثِ عن المعنى. وعبارات “رمل وزبد” تشجّعُ على التّفكيرِ في التّجربةِ الإنسانيّةِ المشتركة من خلالِ استخدامِ لغةٍ شعريّة، ومعالجةِ موضوعاتٍ عالميّة، واستكشافِ مفاهيمَ روحيّةٍ وفلسفيّةٍ متنوّعة، والتّأكيدِ على التّرابطِ بين النّاس. من خلالِ هذه الأساليب، يتجاوزُ الكتابُ الحدودَ الثّقافيّةَ والمجتمعيّة، ويدعو القرّاءَ من خلفيّاتٍ مختلفةٍ للتّفاعلِ مع رسائلِهِ العميقةِ والخالدة. 

المواكب

قصيدة طويلة في صوتين، على نمطِ الشّعرِ العموديّ العربيّ الكلاسيكيّ، تحملُ عصارةَ آراءِ جبران وأفكارِه في النّاسِ والحياةِ والكون، عبر ست مقطوعاتٍ تناولَتْها القصيدة، وهي هواجسٌ إنسانيّةٌ عامّة، تشكّلُ مساحةً مشتركةً لبني الإنسانِ جميعًا.  

جبران الريشة

صحيح أن جبران اكتسبَ شهرتَهُ من كونِهِ أديبًا وشاعرًا، لكن منحوتاتِهِ ورسومَه لا تقلُّ أهمّيّةً وقدرةً عن الإضاءةِ على الجانبِ الإنسانيّ من شخصيّتِه، وهو الّذي عُرِفَ بأنّه يرسمُ كما يكتب، ويكتب بالبصرِ كما لو كان يرسم. 

تعاملَ جبرانُ في لوحاتِهِ، كما في أدبِهِ، مع مجموعةٍ واسعةٍ من مواضيع عالميّة لقيَت صدًى لدى الجماهيرِ من جميعِ الثّقافات، تُظهرُ توقًا عالميًّا للتّواصلِ والتّفاهم، وتدعو المُشاهدَ للتّواصلِ مع الجوانبِ الأعمقِ لكيانِ المرء. وهو تطرّقَ إلى الجوانبِ الأساسيّةِ للتّجربةِ الإنسانيّة، وقدّمَ نظرةً عميقةً في الحبِّ والفقدان واكتشافِ الذّات والرّوحانيّة والبحث عن المعنى. وسعى في الكثيرِ من لوحاتِهِ إلى استخدامِ الفنِّ كشكلٍ من أشكالِ العلاجِ والتّعبيرِ العاطفيّ في الأوقاتِ الصّعبة. وفاقَتْ أعمالُهُ الفنّيّةُ 700 عملٍ جُسِّدَتْ بكلّيّتِها قِيَمًا وهواجسَ إنسانيّةٍ عامّة. فهو بالـ”بورتريهات” الّتي رسمَها، لم ينحصرْ في هويّةٍ معيّنة قوميّة أو وطنيّة، إذ رسمَ العربيَّ إلى جانبِ الأعجميّ، والشّاعرَ إلى جانبِ الطّبيب، ورأينا المتنبّي يجاورُ رودان، والمعرّي إلى جانبِ شارلوت تيلر. وعبّرَ جبرانُ عن فئاتٍ مهمّشةٍ تشكِّلُ فضاءً للتّلاقي الإنسانيّ. وهنا لمحة من أهمِّ لوحاتِه. 

رأس اورفيوس العائم إلى أسفلِ نهرِ هيبروس

لوحة جميلة وعاطفيّة تُظهرُ رأسَ أورفيوس ينجرفُ في اتّجاهِ مجرى النّهر بعد وفاةِ حبيبتِهِ من لدغةِ ثعبان. واستخدمَ جبرانُ الألوانَ الزّاهيةَ وضرباتِ الفرشاةِ القويّةِ من أجلِ التقاطِ المأساةِ وتجسيدِ الأمل. وتُصوّرُ هذه اللّوحةُ المكوّناتِ الرّاسخةَ في المعرفةِ المشتركةِ بين التّقاليدِ الشّرقيةِ والغربيّة، وتركّزُ على النّموّ والشّفاءِ وتحقيقِ الذّات، وتؤكّدُ أنْ “حتّى في أحلكِ اللّحظات، إذا بحثْنا بجدّيّة، سنجدُ الرّاحة”.

روح النّور أوِ المناولة الرّوحيّة

تُطوّرُ هذه اللّوحةُ مفهومَ الرّوحانيّةِ الّذي يربطُ الأفراد بغَضِّ النّظرِ عن الاختلافِ والتّنوّعِ في أفكارِهِم. وهي تُجسِّدُ شخصَيْنِ ممسكَيْنِ بيد أحدهما الآخر تعبيرًا عنِ التّوحيدِ بين النّاس، والتّفاهُم بين الثّقافات، ما يؤدّي إلى حلولِ السّلامِ والوحدةِ وانبثاقِ الأمل والشّفاءِ الدّاخليّ. ويرى جبرانُ أنْ بالتّقديرِ وتقبُّلِ الآخر يمكنُ البشريّة تجاوُزَ انقساماتِها وإيجادَ أرضيّةٍ مشتركة.

الأمّ الإلهة

تصوّرُ هذه اللّوحةُ امرأةً مع أطفالٍ محيطين بها، يحاولون أن يلتمسوا ملجأ قوّة منها. فهي تُجسِّدُ شخصيّةَ الأمّ (الأرض) محاطةً بنسلِها الّذين يمثّلون كلَّ رُكنٍ من أركانِ الأرض. أرادَ جبرانُ من خلالِها أن يجعلَ المشاهدين يفهمون كيف يجب أن يشعروا ويتعاطفوا مع الأفرادِ الأقلِّ حظًّا، ممن يعيشون الحربَ ويختبرون المصائب، كي يتمكّنوا من بذلِ الجهودِ لمساعدةِ بعضِهِم البعض. واللّوحةُ اعترافٌ بالمعاناةِ الإنسانيّة النّاجمة عن الأحداثِ السّياسيّة العالميّة مثلَ الحروبِ والعدوان وضرورةِ تكاتف البشرِ جميعِهِم  معًا.    

اليد الممدودة

لوحة من عالمِ الفنّ في الشّرقِ الأوسط. تصّورُ شابًّا ممدودَ الذّراع، يمثّلُ توقَ الإنسانيّةِ للسّلامِ والاستقرار رغم العيشِ في أوقاتِ مضطربة. رسمَها جبرانُ بعدما عانى من الصّراعاتِ المرتبطةِ بالنّشأةِ وسطَ الحروب، مستخدمًا أيقوناتِ الأيدي كرمزٍ لنبذِ العنفِ وتعزيزِ الانسجامِ العابرِ للحدودِ الثّقافيّة.

الفجر

تُظهرُ هذه اللّوحةُ تقديرَ جبران للتّنوّعِ الثّقافيّ إذ يُصوّرُ شروقًا نابضًا بالحياة يرمزُ إلى الوحدةِ والجمالِ اللذَين يأتيان من احتضانِ التّنوّع.

آدم وحواء

تحفةٌ مبدعة من أكثرِ الأعمالِ شهرةً في تاريخِ الفنّ. تمَّ عرضُها في مدينة نيويورك وفي متحفِ متروبوليتان للفنِّ الحديث، وظهرت في وسائلِ الإعلامِ العالميّة، ما يدلُّ على تأثيرِها القويّ على الثّقافةِ على مستوى العالم.

أمُ الفنّان

هي والدةُ جبران، ترتدي ثوبًا أخضر مع نظرةِ كربٍ على وجهِها، وذراعاها متقاطعتان على صدرِها، ورأسُها مائلٌ إلى اليسارِ مقابلَ تمثالٍ بارزٍ للَّبوءة.وهو رسمها لإظهارِ قوّةِ والدتِهِ فباتت اللوحة مصدرَ قوّةٍ لكلِّ امرأةٍ  تمرُّ بأوقاتٍ عصيبة.

الموكب

لوحةٌ قويّةٌ تحملُ رمزيّةً عميقةً رسمها جبران بألوانِ نابضة بالحياة والتّركيب الدّيناميكيّ والحركة الجماعيّة للشّخصيّات بجمالِ التّنوّعِ وينقلُ رسالتَهُ بضرورةِ القَبولِ والِاحترامِ المتبادل. وصور فيها عددًا كبيرًا من الأفرادِ من خلفيّاتٍ ثقافيّةٍ مختلفةٍ يسيرون جنبًا إلى جنب دون تسلسلٍ هرميّ أو فصل واضح. وتتميّزُ الأشكالُ الموجودة في اللّوحة بمظاهرِها وملابسِها وملامِحِها الجسديّة المختلفة، وتمثّلُ مختلفَ الأعراقِ والأجناسِ والأديان. ويشيرُ هذا التّرتيبُ والاختلافُ في الملامحِ إلى أنَّ التّنوّعَ ليس قوّةً خلافيّةً بل هو جانبُ إثراءٍ للمجتمع، والاختلافاتِ في الثّقافةِ والدّين والعرْق يجبُ الاحتفالُ بها بدلًا من الخوفِ منها. وفي هذه اللوحة فلسفة جبران المتمثّلة في احتضانِ التّنوّع الثّقافيّ وضرورة توثيق الوحدة، وتشجّعُ على التّعرّفِ بالجمالِ في التّنوّعِ واعتناقِ التّكاملِ الثّقافيّ كمسارٍ نحو مجتمعٍ أكثر انسجامًا وشموليّة. هكذا نقَلَ جبرانُ بعرضِ التّعايشِ المتناغمِ للأفرادِ من خلفيّاتٍ مختلفة، رسالتَهُ بشكلٍ فعّالٍ في “الموكب”. 

عُمق الرسالة

نقل جبران بريشته كما بقلمه الرّسالةَ الّتي رأى النّاسَ بحاجةٍ إليها:  رسالة التّحرّرِ والتّجدّدِ إذ رآهم يخضعون لألوانٍ من العبوديّة، رسالة فهمِ الذّات إذ رآهم يجهلون ذواتهم ولا يدركون إمكاناتِها ومكامنَ قوّتها؛ رسالة الطّموحِ والإرادةِ العنيفة الّتي تذلّلُ الصّعاب وتجعلُ “كلَّ ما تشتاقُ الأرواحُ تبلغُهُ الأرواح”. بذا جسّدَ بفنِّهِ مفهومَ الفنّانِ الشّامل قبل أن يعرفَ العالمُ هذا المفهوم: فكانَ الشّاعرَ والرّسّامَ والكاتب في آنٍ معًا، صهرُ الفنون جميعًا في بوتقةِ الإبداعِ الإنسانيّ، وعبّر عن أفكارٍ إنسانيّةٍ وقيمٍ “عالميّة” مشتركة قبل بروزِ مفهومِ “العولمة” ودخولِهِ حيِّزَ الاستعمال. من هنا أنه عانقَ العالمَ بأفكارِهِ الشّموليّة الّتي هي اليوم أساس ثقافة السّلام المرتكزةِ على المساواةِ والعدالةِ والحرّيّةِ والدّيموقراطيّة والإيمان ووحدةِ الأديانِ والسّلام بين الشّعوب. وهو استبقَ العولمة ووضعَ حلولًا للمشاكلِ الإنسانيّةِ والثّقافيّة.

رحلَ جبرانُ في 10 نيسان 1931 لكنّ روحَهُ وإرثَهُ لا يزالان قائمين في أعمالِهِ وكتاباتِهِ ولوحاتِه. أينما نتجوّلُ ونلتفتُ سنجدُ كلماتِهِ متناثرةً في كلماتِ الأغاني ومقالاتِ الكتب والرّوايات والكتبِ المدرسيّة وخطبِ الزّفاف والخطبِ السّياسيّة وخطبِ الجنازة، حتى بات مندمجًا في كلِّ رُكنٍ من أركانِ عالمِنا. 

وبينما نعيش مع روحِه يرقدُ جسدُهُ داخل ديرِ مار سركيس في مسقطِ رأسِهِ في بشرّي. وعلى ضريحه الكلماتِ التّالية: “أنا حيٌّ مثلُك، وأقفُ الآن بجانبِك. أَغمضْ عينيْك وانظرْ حولك تَرَني أَمامك”.

الكاتبة: الدكتورة إيمان درنيقة

أُستاذة جامعية ورئيسة مركز إيليت للثقافة والتعليم


Related Posts


 

Post Author: SafirAlChamal