لكلِّ مدينةٍ تاريخيةٍ أثرٌ يُظهر جوهرها، شاهدٌ على أحداثها ويشكل شريان حياةٍ أساسي لمجتمعها.
في طرابلس التي تتغلغل في زواياها أجزاءٌ من تاريخٍ مديد يشهدُ على عهودٍ ملأى بالعلم والحضارة، وعلى مقربةٍ من قلعة طرابلس ومتوسطًا النسيج العمراني للمدينة يقع الجامع المنصوري الكبير وإليه تقود كل الأحياء في أسواق المدينة القديمة التي تضج بالحياة.
تيمُّنًا باسم مُحرر طرابلس من الصليبيين بوشر ببناء الجامع عام 1294، بعد خمس سنوات من تحرير المماليك للمدينة، بأمرٍ من السلطان الأشرف صلاح الدين خليل، وذلك جريا على عادة المسلمين ببناء الجوامع بعد فتح كل مدينة. وقد دعت الحاجة الجغرافية بعد فتح طرابلس التي كان مكانها الميناء، الى نقل ثِقل المدينة إلى الداخل بعمق 3 كيلومترات، بدل اقتصارها على المساحة الساحلية والبحرية الضيقة. فكان الجامع تمهيدًا لتأسيس كيانٍ مركزي لإنشاء منظومةٍ اجتماعيةٍ، سياسيةٍ وحضارية. وتم بناؤه في المكان الذي نزل فيه السلطان المنصور قلاوون بعد دخوله المدينة فاتحا.
يُعتبر الجامع المنصوري الكبير من أكبر مساجد طرابلس القديمة، فتبلغ مساحته ما يُقارب 3000 مترٍا مربعا… مُتسِع الجهات، تُحيط به الأروقة والعقود الحجرية وتتوسطه بركة ماءٍ كبيرةٌ تعلوها قبةٌ. أما علامته الفارقة فهي البرج- المئذنة كما يُسميها المؤرخ الطرابلسي الدكتور عمر تدمري، وقد قامت كالجامع على أساسات برجٍ سبقها، وبُنيت على الطراز الأندلسي ذي الشكل الرُّباعي. وفي عهد الأمير قرطاي بن عبد الله، لوحظ أن المنبر لم يتناسب مع ضخامة الجامع، فأمر بإضافة منبرٍ خشبيٍ ازدان بالنقوش والزخارف، وما زال قائمًا حتى يومنا هذا مُحتفظًا بتفاصيله ومتانته. وعلى الطراز المملوكي يُلاحظ مُخطط المدينة حول الجامع كمُجمَّعٍ واحدٍ مُتشعب، فتُحيط به المدارس والزوايا والأسواق والمساكن.
الجوامع في مفهوم الحضارة الإسلامية لم تكن أدوارها مُقتصرةً على الجوانب الدينية فحسب. بل هي أوتادٌ عميقةٌ في بُنية المجتمع في نواحيه الاقتصادية، والثقافية والسياسية والاجتماعية، وتُساهم في تماسك المجتمع ليبقى كالجسد الواحد. فمن الناحية السياسية كان منبر المنصوري الكبير مصدرًا للخُطب ومكانًا للقيادة وساحته مركزًا للتشاور واجتماع الشعب، فتتقوى صِلاتُهم باللقاءات المستمرة على آداء العبادات والاحتفال بالأعياد.
تناثرت حول الجامع المنصوري الكبير مدارس عدة كالمدرسة القرطاوية والناصرية والشمسية وغيرها من المدارس التي وهبت طرابلس لقب مدينة العلم والعلماء.
في رمضان، وتحديدًا في يوم الجمعة الأخير منه، تُخرج دار الفتوى الأثر الشريف لتعرضه أمام المصلين، وهو عبارة عن شعرة من لحية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، أهداها السلطان العثماني عبدالحميد الثاني لأهالي طرابلس لمناسبة إنهاء تأهيل وترميم المسجد الحميدي، ولأن هذا المسجد كان خارج أسوار المدينة، إرتأى علماؤها وُضع الأثر الشريف في الجامع المنصوري الكبير وبناء غرفة له تُعرف حتى اليوم بغرفة الأثر الشريف التي تستقبل في كل رمضان المؤمنين، كما يستقبل الجامع المصلين ويستمر في لعب دوره الديني والاجتماعي والسياسي.
Related Posts