مُفاجِئةٌ كانت خطوة الرئيس نجيب ميقاتي بالدعوة لاجتماع مجلس الوزراء المستقيل، والذي يعتبر في وضعية تصريف الأعمال. فقد ظنّ كثيرون أن الرئيس ميقاتي انتهى دوره بمجرد أن بادر رئيس الجمهورية ميشال عون إلى إعلانه قبول استقالة حكومته.
لم تكن خطوة الرئيس عون قبل إنتهاء ولايته ذات مغزى، فحكومة ميقاتي مستقيلة، وتقوم بتصريف الأعمال بصورة تلقائية، وقبول الاستقالة لا يوقف “تصريف الأعمال” كضرورة ماسّة للناس. لذلك، تأتي مبادرة عون في سياق فشة الخلق، إذا جاز التعبير، أو في سياق تبرير الذات أمام مؤيديه بعد خروجه من القصر.
لم يكن عون بوارد تكرار تجربة ١٩٨٩ بتكليف حكومة أخرى، فهو لم يعد قادراً على تحمّل أوزارها أمام الدول الكبرى عالميا.
وتعيد خطوة ميقاتي لتكشف المستور في خلفيات التيار الوطني الحر الذي يتزعمه جبران باسيل، والذي ذكّر في ردود فعله على خطوة ميقاتي بمناخات الظروف التي سادتها الحروب الداخلية.
ولا يتردد باسيل في أخذ البلد نحو الهاوية بهدف تحقيق رغباته، وشبقه المعهود للسلطة، مثله مثل القيادات المارونية التي دخلت في حروب داخلية في الطائفة، وأدى ذلك إلى أذيتها، وأذية البلد، لكن دون تردّد، وفي أحد أبرز محطاتها حرب الالغاء بين التيار الوطني الحر، والقوات اللبنانية سنة ١٩٨٩.
والتبريرات الواهية التي قدمها الوزير باسيل لتغطية مواقفه من الرئيس ميقاتي، هي آخر المحاولات لتحسين شروط وصوله لرئاسة الجمهورية التي تبدو بعيدة المنال عنه أكثر من كل الأيام، بسبب ممارسته الموتورة لإلغاء الجميع من منافسيه للرئاسة، وفي مقدمهم الوزير سليمان فرنجية.
يحاول باسيل إشعال البلد لإشعال سيجارته، في عدم تردّده باتهام الرئيس ميقاتي بتولي مهام رئاسة الجمهورية، ويستدرج كل النقاط الدستورية لتبرير حقده الطائفي، وتغطيته بالدستور، بينما سبق أن شهدت كرسي الرئاسة فراغاً متكرّراً عدة مرات، ولم يحدث أن استلم أحد من بقية الطوائف السلطة، ولم يطالب بها أحد، رغم أن المبرّر موجود، وهو في التفاوت العددي بين الطوائف الذي يمكن أن يفتح الباب لتعديل دستوري يطاول كل المواقع في السلطتين التنفيذية والتشريعية.
لا شك في أن خطوات الرئيس ميقاتي قد فاجأت الجميع بأدائه الرصين والمسؤول والحريص على انتظام المؤسسات والاستجابة لحاجات الناس، لذلك لم تظهر أية استجابة شعبية لمواقف باسيل، ولا استهجان شعبي لخطوة ميقاتي، فلدى الناس هموم أكبر بكثير من رئاسة الجمهورية، وحلولها موجودة في مجلس الوزراء، ولم يهتم المواطنون لمقولات الدستور، ومخالفته، فهمهم في الدواء، وإنقاذ حياة المرضى، وإيجاد بعض حلول لمشاكلهم الكبيرة التي لم تعد تطاق.
وبالإمكان القول إن اللبنانيين بمختلف اتجاهاتهم وانتماءاتهم، لم يهتموا للفراغ في الرئاسة، ولم يشعروا بفارق بين الشغور وعدمه، ولم يكترثوا من سيملأ سدة الرئاسة لأنهم يدركون أن القرار ليس محلياً، ولن تقدّم مبادرات باسيل ولن تؤخر في تغيير واقع الحال، بينما كل هموم الناس هي في تخفيف اعباء الأزمة عن كاهلهم.
لمس اللبنانيون أن الفراغ السلطوي كارثي عليهم، في ظل الانفلات من كافة الضوابط، ولذلك يشعرون بحاجة لسلطة بالحد الأدنى، ولتمنَّوا لو أعيد الاعتبار للحكومة الحالية، ومنحها شرعية دستورية كاملة وعدم إبقائها حكومة تصريف أعمال، فهمهم الأول شؤون حياتهم المباشرة.
لكن يبدو ان تيارات نزعة الالغاء التاريخي ليس همّها هموم الناس، ومصالحهم، بقدر ما همّها هو تحقيق مصالحها الشخصية، والفئوية، ولولا ذلك لعملت على البحث عن شرعية لهذه الحكومة قبل مغادرة الرئيس عون للقصر الرئاسي، وذلك ضنّاً بمصالح الناس، وحاجاتهم.
لكنّ الكثير من القوى السياسية لم تعتد على تجاوز الانقسام، وتجاوز التحاصص الطائفي، وتوزيع المغانم. إلّا أن الرئيس ميقاتي تخطى تلك الحسابات، وقدّم المصلحة العامة على الخاصة في ظل انهيارات متتالية وظروف حرجة، فالحكومة المستقيلة هي بمثابة لجنة عمل يومي تصرف الأعمال، بينما يُطرَح السؤال عما هو أكثر أهمية، هل في تحقيق حاجات الناس، وانقاذ حياة الكثيرين من المرضى منهم، كمرضى الكلي والسرطان، أم في الصراع المحتدم بين القوى السياسية منذ السابع عشر من تشرين الثاني ٢٠١٩، حيث يعاني الناس على كل المستويات في ظلّ الحلول الغائبة، والمعالجات التي تنتظر التسويات.
هنا يمكن ملاحظة تَمَيُّز الرئيس ميقاتي بأنه في مواقفه من الشأن العام، كان أبعد من تلك الحسابات الضيقة وعمل كرجل دولة بامتياز، جامعاً بين الأصول الدستورية، ومصالح المواطنين في آن.
ولكن تحمل المسؤولية واجب وطني يتجاوز طموح هذا او ذاك واذا كان باسيل اعتاد اللعب على حافة الهاوية، دون التردد في ابتزاز حليفه الوحيد. هذه المره لم يكن موفقاً كون كل القوى السياسيه محرجه أمام جمهورها نظرا للظروف التي تعيشها البلاد، أمّا هو فلم يتردد في أن تُضرب مصالح الناس خدمة لأهوائه.
على ما يبدو أن ما جرى سيتكرر نتيجة الفراغ والانقسام في ظل تعثر التسوية الداخلية والخارجية في الإقليم، والاضطراب الذي تعيشه المنطقة مرشح للاستمرار، ولغاية الآن لم تفتح آفاق التسوية فالعالم يعيش فراغا سياسيا و فقدان وزن نتيجة حرب روسيا-اوكرانيا ومعركة إعادة تشكل العالم.
فهل يعقل أنه من الآن لحين إنتاج حلول أن يبقى البلد بلا سلطة ترعى هموم الناس بالحد الأدنى؟
الحل الوحيد في فترة الانتظار غير المعروفة بنهايتها، هي في الاهتمام بشؤون الناس، والحل الوحيد يكمن باستمرار الرئيس ميقاتي في دوره كرئيس للحكومة، في ظلّ ما يقوم به من لقاءات وجولات عربية ودولية من أجل بناء شبكة أمان للبنان، واللبنانيين.
Related Posts