طالب البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي القِوى اللبنانيّةِ المؤمنةِ برسالةِ لبنان أن تحافظَ بجميعِ الوسائلِ الناجعةِ على لبنان التعدّديِّ، المدنيِّ، الديمقراطيِّ، الموَحَّدِ في كنفِ دستورٍ لامركزيٍّ توافَقْنا عليه. وهذه أمانةٌ في عُنْقِ كلِّ مواطنٍ وجماعة، كان ذلك خلال عظته في يوم الأحد الثالث بعد الصليب الواقع في 2 تشرين الأول 2022 وفي مقر البطريركية الصيفي في الديمان.
وما يمكن إستنتاجه من مضامين العظة ومراميها أنها تترافق مع المناخات السياسية السائدة التي تشدد على أن يكون الإستحقاق الرئاسي “جدّيا ويخدم مصلحة لبنان عبر إنتخاب رئيس جمهورية سيادي غير تابع لا لدولة ولا لحزب ولا لأي جهة ممكن أن تؤثّر على قراراته”،حيث أبدت لجنة التَّنسيق اللّبنانيّة – الأميركيّة LACC خلال زيارتها إلى بيروت في شهر تموز/ يوليو من العام الجاري 2022 ” إستغرابها أمام التماس طلب مجموعات نيابية على اختلاف إنتماءاتها الطائفية بأن يكون لديها غطاء خارجي وكأن اللبنانيين غير معتادين على إتّخاذ قرار مستقل”.
ويقتضي الوضوح في كيفية إستخدام المصطلحات والمفردات العلمية الإجتماعية و السياسية -على أهمية- دلالاتها أنها تستدعي الإضاءة على ما تثيره من حساسية في مقارباتها وتأويلاتها، لا سيما حينما أثار الكاتب والمفكر اللبناني وليد فارس ضجة في سبعينيات القرن الماضي مقولته الآيلة الى أن ما هو قائم في المجتمع اللبناني “التعددية الحضارية” تتحدث ضمناً أو صراحة، عن تراتبية حضارية، رأى فيها الباحث حسن منيمنة أمراً مرفوضا تلقائيا خصوصاً ان كتابات وليد فارس ومؤلفاته تصدر عن جامعة الكسليك المحسوبة لدى أصحاب الطروحات الثورية على الرجعية الطائفية.
ومن هذا السياق نرى بروز هذه الحساسية في مصطلح “التعددية” الذي لا شك أن وليد فارس قد أزخم مقولته بالتوجهات العقائدية، التي ترى جواز فك عقد التعددية أو وجوبه ضمن إطار النقاش الدائر في البيئة المسيحية اللبنانية عن جدوى الصيغة الوطنية التي لم تعطِ للمسيحيين في لبنان أولوية قطعية، بل أتاحت المجال، تحت عنوان المساواة، أمام إستفحال الدعوات التذويبية، بمسمّيات قومية تخفي وراءها مدلولات دينية، على حساب وجود سيادي ضامن للإستمرارية التاريخية للمسيحية المشرقية في لبنان. وقد تفاقمت هذه الأحوال مع حقب الدخول الفلسطيني المسلح إلى لبنان، والإصرار على تسفيه القلق المسيحي من الخطاب السياسي العام، وإدراجه في خانة الدفاع عن إمتيازات لا بد من إعادة النظر فيها.
ويشير معن زيادة الى أن هناك مغالطات تطال الأطروحة التعددية دون أن يتردد في الإعتراف بأن الإرادة المشتركة تعرضت في السنوات الأخيرة للإهتزاز والإرتباك وذلك بفعل عوامل متعددة منها الجديد المتمثل بتأثيرات القضية الفلسطينية ومنها القديم الذي يجسده الميثاق الوطني. ومن يأخذ بالتعددية إنما يعود خياره لأسباب سياسية لا لأسباب حضارية ترتبط بالمسعى المتواصل الى إنشاء كيانات عنصرية دينية منعزلة عن بعضها البعض. ومن هنا أيضا تنبثق الحقوق المبررة لدى وليد فارس بعد مرور أكثر من قرن على إعلان لبنان الكبير، دون أن تتحقق الصدارة للهوية اللبنانية الجامعة، أن يبحث في مفهوم الحضارة عن أسباب الفشل، رغم الضبابية التي لا تفارق هذا المفهوم، سواء في فرز الحضارات المختلفة أو بتحديد خطوط التماسها، بالرغم من أن “التعددية” تعني ضرورة قبول الأنماط الثقافية والجنسية والعرقية والدينية القائمة بين مختلف الجماعات الإنسانية، وهي في السياسة نظام سياسي قائم على تعايش الجماعات المختلفة والمستقلة في الإدارة مع تمثيلها في الحكم، أما التمايزات الثقافية والعرقية والدينية بما تفرضه من مفارقات في الرؤى والمواقف السياسية فهي ملازمة لطبيعة المجتمع البشرى ذاته.
وينبري الدكتور جورج شبلي في الدفاع عن “التعددية” كاشفاً عن مشروعية هذا الدفاع عبر التمسك بإشكالية محورية رسَمَت نفسَها وعملت على التفريق ما بينَ “أمانٍ بالتَّعدُّدية، وبينَ أمانٍ بالإنفصال”، “إذ لا زال هناك الكثير من التساؤلات تطرح على الطرف السيادي عما إذا كان هنالك من إمكانية للتنازلات حفاظاً على شعرةِ مُعاوية مع مَنْ يُعتَبَرُ شَريكاً إغتالَ الحكمَ، وعطَّلَ الحكومةَ، وسَحقَ مكوِّناتِ الدولةِ والوطن ؟؟”. وتحت ستار الموضوعية التي تخفي الكثير من الذاتية يرى شبلي أن هذه الموضوعية ينبغي معها “إعادةُ شَرحِ مفهومِ نظامِ التعدّديةِ، بكلِّ مندرجاتِه، باعتبارِهِ أنموذجاً سياسيّاً وإنسانيّاً راقياً، أخذَت بهِ جغرافيّاتٌ واسعة، صِراطاً مُستقيماً في سِفرِ تكوينِ عَيشٍ مُشتَرَكٍ مُتَمَدِّن. فَعسى أن تستطيعَ هذه التّذكرةُ اللّافِتةُ جعلَ نظامِ التعدديةِ مِحَطَّاً لاهتمامِ شرائحِ الوطن، كلِّها، كمَمَرٍّ إلزاميٍّ يَحولُ دونَ تسطيحِ رقبةِ الوطنِ تحتَ شِفارِ التَبَدُّدِ، ويمنعُ موتَ لبنانَ “الكلاسيكيِّ”، أرضِ الإنسجامِ والتَّناسُق. وأن نظامَ التعدُّديةِ السياسيَّ يقومُ، في جوهرِهِ، على تَعايُشِ الجماعاتِ المختلفةِ، والمستقِلَّةِ في الإدارةِ والتَّمثيل. وهو، بالتالي، يُشكِّلُ إطاراً للتَّفاعلِ الإيجابيِّ بينَ المجموعاتِ التي من شأنِها أن تحترمَ خصوصيةَ غيرِها، وتتعايشُ مع هذا الغيرِ تَعايُشاً متَميِّزاً، بدونِ صراعٍ، وكذلك، بدونِ إنصهارٍ حتى لا تبتلعَ الواحدةُ الأُخرى. وهو يعني، أيضاً، الإفساحَ في المَجالِ أمامَ الأفكارِ، والمذاهبِ السياسيةِ، والإجتماعيةِ، والعقائديةِ المختلفة، لممارسةِ أنشطتِها، وللتَحرُّكِ الحُرِّ في ساحةِ العملِ العام. لهذا، يُعتبَرُ نظامُ التعدديةِ من أهمِّ ملامحِ المجتمعاتِ الحديثةِ الرّاقية، والطَّرحَ الأَرقى على مستوى إستراتيجيةِ علاقةِ الإنسانِ بالإنسان، ومُفتاحاً لأيِّ تَطَوُّرٍ يُحرزُهُ المجتمع، لأنّه عنصرٌ أساسيٌّ من عناصرِ قوتِّهِ، ووحدتِهِ، وتَماسُكِ مُكوِّناتِه”، أما النموذج البَديلُ المَفروض، أي “التّوتاليتاريةُ الإثنيةُ الأُصوليةُ”، هو وَجْهٌ من وجوهِ الدّيكتاتوريةِ البائدةِ، والمَرفوضةِ في زمنِ الإنفتاحِ، والتَّواصُل. أمّا التّهديداتُ المُتكرِّرةُ بانقلابٍ فِئَوِيٍّ، طائفيٍّ، للسيطرةِ على الحُكمِ بالقوة، فهي تُعيدُ عقاربَ الساعةِ، حتماً، الى زمنِ المُطالبةِ بالتَّقسيم، أو بالفديرالية، بسببِ فشلِ إمكانيةِ الإستمرارِ في المُعايَشة، وضماناً لإستمرارِ وجودِ الإثنياتِ الأخرى غيرِ المُسَلَّحَة، وخصوصيّاتِها.
ويذهب سجعان قزي وهو وزير سابق في مقال له بتاريخ 12/8/2021 الى حد إعتبار المكون الشيعي ” جزء أصيل من التعددية الحضارية اللبنانية، لكن حزب الله بما هو لا بما يمثل ليس جزءا من هذه التعددية لأن إختلافه عن سائر اللبنانيين ليس مرده إلى خصوصية لبنانية، إنما إلى خصوصيته الإيرانية الخمينية. بذلك، وخلافا لحركة “أمل”، يفقد حزب الله الحق في تعديل الحياة الدستورية والميثاقية لأن هذا الحق محصور بمكونات التعددية اللبنانية لدى تأسيس دولة لبنان سنة 1920. فكل مكون يتحور يتحول حالة مضافة لا يستوعبها النظام التعددي اللبناني. من هنا نفهم أكثر الأسباب الكامنة وراء مطالبة السيد حسن نصرالله بمؤتمر تأسيسي: يريد تعديل تركيبة التعددية اللبنانية وهويتها، وإضافة مكون جديد متحور على “مجلس إدارتها” يغير نظام المساواة الميثاقية”.
ولا تتأخر جهات لبنانية أخرى غير متسامحة في توجيه سهامها الى حزب الله الذي يعتمد منذ مدة مناخاً تصعيدياً حيال الداخل والخارج غيرعابئ بما تستجره مواقفه من زعزعة للعلاقات بين المكونات اللبنانية وعيشهم في بوتقة وطنية واحدة من جهة ولتواصل لبنان مع أشقائه العرب والدول الأوروبية والأميركية من جهة ثانية .وفي السياق بدا لافتاً إقدام أحد القادة البارزين في الحزب رئيس المجلس التنفيذي السيد هاشم صفي الدين على توجيه التهديدات المباشرة لخصوم الحزب تحت شعار الهجوم على الأميركيين وقوله في كلمة وزعتها دوائر الحزب “يجب أن يعرف جميع اللبنانيين، والأميركيون سيعرفون عاجلا ً أم آجلاً أنه إذا استمرت هذه الضغوط وهذا اللؤم والحقد على اللبنانيين في معيشتهم ومالهم لن يكون أمامنا خيار إلا أن نعتمد على أنفسنا ونبني بلدنا كما يجب أن تُبنى الأوطان والبلدان “.
وقال أيضاً “إذا الأميركي يريد أن يأخذنا للضغط الأقصى يجب علينا أن نذهب الى الخيار الأقصى في الإعتماد على أنفسنا لبناء وطننا عندها “منكنس” الأميركي وأزلامه في لبنان” ، الأمر الذي طرح أكثر من سؤال وعلامة إستفهام حول مستقبل الشراكة بين المكونات اللبنانية والوحدة الوطنية وحرية الرأي والمعتقد والتنوع والتعددية “.
ويتراخى قيادي آخر في حزب الله هو النائب السابق نوار الساحلي موضحاً ” بالطبع ليس هناك من تخل عن صيغة التعايش التي إرتضاها اللبنانيون والحزب يحرص عليها في كل حراكه ومواقفه وهو لم يدع يوماً أن المكاسب السياسية والعسكرية التي يحققها هي له، أنما لطالما أهداها وعلى لسان أمينه العام الى الشعب اللبناني بأسره .وفي المحصلة نحن على قناعة تامة أن لا وجود للبنان من دون شراكة بين سائر مكوناته، و”بالطبع لكل أنسان حرية الرأي والإنتماء السياسي شرط ألا يكون ذلك على حساب المصلحة الوطنية أو أن تكون عميلا ًوعدواً لبلدك وأهلك وهذا ما قصده السيد صفي الدين في قوله “سنكنس” الأميركي وأزلامه من لبنان ،علماً وكما الجميع يعرف أن كل فئة في لبنان تناصر دولة محوراً خارجياً وهذا طبيعي، أما غير الطبيعي فهو أن تكون مع الخارج ضد بلدك وأهلك وهو ما لا يقبله ولا يسمح أحد به”.
ويبقى السؤال الذي لا يستبعد الإنقسام بين اللبنانيين “هل أطروحة التعددية تصلح كأساس للتعايش المجتمعي في لبنان وتساعد على إنهاء الحروب في هذا البلد الذي عانى طويلاً من الصراعات المسلحة؟” وهل الرئيس العتيد الذي ينتظر جميع اللبنانيين إنتخابه ” سيحسن العمل على إستبعاد كل إيديولوجيات النزاع ومن ضمنها “التعددية”ويأخذ بعين الواقعية السياسية الحد من إمكانات طرح مشاريع إنفصالية عن طريق التأكيد على مفاهيم الشراكة الوطنية والمساواة بين الجماعات والأفراد الذين ينتمون الى مكونات مختلفة؟”. ولكننا لا زلنا نعتقد أن “التعددية” تبقى الإشكالية الأساسية التي تشكل البذور الحقيقية للإنقسام الكياني الحاد و”السوسة” التي تنخر فيه وتضعفه.
Related Posts