أمّا وقد لملمت مناطق شمال لبنان والمخيمات الفلسطينية جراحها ودفنت ضحايا مركب الموت الذي غرق قبالة شاطئ مدينة طرطوس السورية بالقرب من جزيرة أرواد، لا بد من الاضاءة على خفايا وخبايا الهجرة غير النظامية.
بدأت هذه الهجرة قبل سنوات بهدف انساني اراده النازحون السوريون للهرب من مآسي الحرب والنزوح الى حياة افضل، ثم انضم اليهم اللبنانيون بعد الانهيار الاقتصادي والمالي والازمات المعيشية والاجتماعية، وكذلك اللاجئون الفلسطينيون نتيجة تقليص خدمات منظمات الاغاثة لا سيما الأونروا، وتحولت تدريجيا الى إتجار بالبشر نتج عنها مافيات تمتهن الموت، وصولا الى جرائم إبادة ترتكبها عصابات تجبر الناس على الموت غرقا وتحت تهديد السلاح بعد ان تسلب اموالهم وتحقق منها ارباحا طائلة.
لم تكن شهادات الناجين من مركب الموت أمرًا عابرا، بل كشفت اللثام عن ابشع انواع المجازر التي ترتكب بحق الفقراء بدم بارد، خصوصا ان كل هذه الشهادات تحدثت عن سيناريو واحد وهو ان العصابة التي تقف خلف مركب الموت حشرت 150 شخصا في مركب لا يتسع لأكثر من 50 شخصا فضلا عن كونه مركبا خشبيا لا يصلح للصيد حتى يكون قادرا على الابحار لمدة عشرين يوما للوصول الى السواحل الاوروبية، وعندما اعترض قبطان المركب العارف بأمور البحر ورفض الابحار تم تهديده بالقتل، وعندما فضل الموت على ان يقود 150 شخصا الى الموت غرقا تم تهديده بقتل اطفاله وزوجته الذين قضوا معه في بحر طرطوس غرقا مع نحو مئة شخص.
منعت العصابة المهاجرين من العودة الى اليابسة وحالت دون عدولهم عن الهجرة، فصعد الجميع الى المركب تحت تهديد السلاح وعلى وقع الشتائم والسباب كمن يخضع لتنفيذ حكم الاعدام وهذا ما حصل بعد ساعات قليلة على إبحار المركب حيث توقف المحرك مرات عدة حتى تعطل بشكل كامل، ولم تتجاوب العصابة التي جمعت اكثر من 800 الف دولار من دماء الفقراء مع اتصالات الاستغاثة لا بل كانت تطمئن المهاجرين تسويفا بانتظار ان يموتوا بهدوء ويصبحوا طعما للسمك، حيث كان الكذب سيد الموقف حول مراكب انقاذ لم تصل ويخت كبير مجهز ينتظر في عرض البحر كان سرابا يحسبه الظمآن ماء.
هذا الواقع المأسوي، يتطلب مواجهة على مستويين الاول يتعلق بالاجهزة الامنية التي عليها ان تتخذ التدابير اللازمة سواء لجهة الامن الاستباقي الذي يمارس مع الخلايا الارهابية خصوصا ان من يقتل الناس عمدا غرقا في البحر هو ارهابي بامتياز، او لجهة البحث والتحري لتوقيف كل المتورطين بهذه الجرائم وخصوصا مركب الموت الاخير وانزال عقوبة الاعدام بهم في ميدان عام ليكونوا عبرة لغيرهم من المجرمين.
وقد جاء الاجتماع الامني الذي ترأسه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أمس ليدعم الخطوات الامنية التي من المفترض ان يصار الى تفعيلها للحد من هذا الموت المجاني.
والثاني هو القليل من الوعي من قبل المواطنين الذين من المفترض ان يعلموا بأن هجرتهم لم تعد تجدي نفعا، حيث تشير المعلومات الى ان الرحلات التي خرجت قبل سنوات تم استقبالها بشكل انساني وقد وفرت لهم السلطات الاوروبية اقامة لائقة، أما بعد تنامي الهجرة فإن هذه السلطات بدأت بالتضييق على المهاجرين وصولا الى الضغط عليهم بوضعهم ضمن مخيمات تفتقر الى ابسط مقومات الحياة، أو ارسالهم الى تركيا حيث يقيمون في مخيمات مماثلة، ولعل بعض الفيديوهات التي ارسلها مهاجرون من دول اوروبية او من تركيا تؤكد حجم المعاناة التي يواجهها هؤلاء، وكذلك فإن التحركات التي تشهدها مناطق الشمال لمطالبة الحكومة بإعادة النازحين تشكل دليلا اضافيا على الاوضاع السيئة التي يواجهونها.
كل ذلك، يشير الى ان الهجرة غير النظامية تؤدي الى مفترق طرق، فإما الوقوع في القبضة الامنية، واما الموت غرقا، واما مواجهة صنوف العذاب في مخيمات البؤس، وفي كل الحالات فإن الاموال الطائلة التي تُدفع تذهب هباءً منثورا!..
Related Posts