ميثاق الوفاق الوطني الذي أقرّ في الطائف.. هو الإنجاز الأروع والابتكار الأهم في حياتنا الوطنية… بقلم: الدكتور نزار يونس

الكارثة التي حلّت بنا ليست حدثاً عابراً أو ظرفياً، كونها حصيلة الأزمات المستفحلة في بلادنا منذ أكثر من قرن. العلة القاتلة كامنة في تجاهلنا الملتبس والغبي إستحالة إنشاء دولة محققة في ظل نظام التمثيل الطائفي المكرّس بحكم دينامية عمله لأغراض ومصالح منظومة المحاصصة الطائفية.

إن ما نطلق عليه اسم الدولة ليس سوى كيانًا قرويًا متخلفًا تشكل من شتات مذاهب وعشائر وميليشيات ومغامرين، فكيف لنا أن نعوّل على هذه الدولة المغيّبة في أي شأن، طالما أن العلّة كامنة في نظام شراكة الطوائف المستحيلة.

كان لدينا وطن رائع، وكان مؤهّلًا ليغدو من أعظم أوطان الدنيا. كان لديه ولدى سكّانه كلّ المقوّمات لبناء اقتصاد عملاق على أرض بهية، ولإنتاج ثقافة مرهفة لشعب ذكي وشجاع، لديه الجدارة للمساهمة في صيرورة الحضارة، كما تفعل، في كلّ يوم وتحت كلّ سماء، أرتال من الرجال والنساء الذين رمتهم الأقدار في أمصار لم تلوّثها أنانية من تولّوا أقدار الوطن، وتركوه عرضة للهوان والسقوط.

هناك ظروف قادت وطننا إلى الاعتلال والتقزّم، جرّاء إصابته بوباء خبيث، استطاع، في غفلةٍ من الزمن، أن يتفشّى ويستفحل. فبدل أن يكون هذا الوطن المرصود للرغد والرقي منارة تضيء ومثالًا يُحتذى، شاء سوء طالعنا أن تتولّى أمره منظومة سياسية فاجرة، عملت على تسعير التشابك الطائفي كبديل عن قيام دولة مسؤولة عن رعاية مصيره، وصون وحدة شعبه، ما دفع بلادنا في النهاية الى آتون الحرب الأهلية التي اندلعت في العام 1975.

في العام 1989، عندما أتاح الظرف الدولي خروجنا من لجّة الجنون الجماعي، تنادى اشقاؤنا في جامعة الدول العربية لمساعدتنا، حيث تشكلت اللجنة العربية العليا، من الملوك والرؤساء العرب، التي تولّت الدعوة الى مؤتمر في مدينة الطائف لإعداد وثيقة دستورية لتعديل النظام السياسي القائم، ما “يحقق سيادة لبنان ويؤكد وحدته وهويته ويرسي الحرية والعدل والمساواة بين مواطنيه”، كما جاء في الدعوة الى مؤتمر الوفاق الوطني في الطائف.

أقرّ المؤتمرون، برعاية كريمة من اللجنة العربية العليا وبدعم دولي واسع ميثاق الوفاق الوطني، الذي قضى بالتخلّي عن نظام مجلس المِلل الرعوي المعطل لقيام دولة منجزة، ورسم الطريق الآمن لقيام دولة المواطنة اللاطائفية للعيش معًا، مواطنين أعزاء على أرض حرة ومحررة من الاحتلالات والميليشيات في جمهورية ديمقراطية عصرية مؤهلة لتكون منارة هذا الشرق وقاعدة نهضته الثقافية والعمرانية.

غداة المؤتمر في عام 1990، حدث ما ليس في الحسبان:

تبدلت التوازنات الدولية بعد حرب الخليج الأولى ما أتاح للأطراف الخارجية والداخلية فرصة القيام بانقلاب إجرامي على الميثاق، حيث تولّى الوصي المنتدب بحذاقة لا مثيل لها، تعطيل تنفيذه، وتشويه أهدافه، وتوظيفه فزّاعة وسلاحًا لتحقيق رغبات سلطة الوصاية التي تناقض كليًّا الميثاق، نصًا وروحًا.

الآن وبعد كل ما حصل وتحقق، لا بد من طرح السؤال الحرج التالي:

هل إن اتفاق الطائف، ميثاق وطني تأسيسي ملزم، قضى بالتخلي عن التمثيل الطائفي الفاسد والمستحيل، ورسم خارطة طريق واضحة ودقيقة لقيام دولة حقيقية علمانية ومرادها المساواة والعدالة والتوازن الوطني؟.

أم أن الميثاق، خلافًا لنصوصه، ولإرادة مريديه تسوية ظرفية بين أمراء الطوائف والميلشيات ومن ورائهم “كلّن يعني كلّن” لتنظيم تحاصص البلاد والعباد على ضوء موازين القوى وسطوة السلاح؟.

لا شك لديّ، أن ميثاق الوفاق الوطني، الذي تم إقراره في الطائف، هو الإنجاز الأروع والابتكار الأهم في حياتنا الوطنية منذ إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920. ففي نصوصه الواضحة الإجابة على السؤال المطروح والفصل بين الحقائق اللبنانية التاريخية وبين رواسب الفكر الطائفي المعاق الذي شوّه هذه الحقائق ومسخها وحول “ميثاق الوفاق الوطني” بفعل المؤامرة والغباء، الى سلاح للاشتباكات والمزايدات الطائفية والمذهبية والعشائرية.

من المحزن، إِنَّ الأكثرية الساحقة من المواطنين من جميع الطوائف والشرائح الاجتماعية والعمرية والمناطقية، ما زالت على جهل مُطبق للميثاق، نصًا وروحًا ومآلًا، إذ إنه تحوّل، من خلال حذاقة الوصي المنتدب وأعوانه إلى بطل مسرحية درامية هزلية عنوانها: “جحا صدّق كذبته” تدور فصولها حول التشابك الطائفي والتراشق الكلامي بين أطراف المنظومة السياسية حول ما يُطلق عليه تسمية “الميثاقية” المزعومة والحصص المتخيّلة، وحقوق الطوائف والمذاهب المهدورة، وجوائز الترضية الشائنة للفوارس مالكي هذه الحقوق.

سؤال آخر يتبادر إلى الأذهان سؤال دقيق لم يعد في الإمكان تجاهله أو إغفال الإجابة عنه، وهو: هل نحن شعب ولنا هوية وطنية خاصة بنا؟ هل نحن مواطنون في كيان وطني تعدّدي حضاري أم إننا شتات رعايا في كيانات طائفية ومذهبية وعشائرية؟ وهل إن الانتماء الى هويتنا الوطنية اللبنانية يتقدّم على ما سواه من انتماءات داخل الحدود أو خارجها؟ أم أننا واهمون؟

من الطبيعي أن يكون الجواب الصريح عن هذا السؤال صاعقًا، في واحد من شقيّه على الأقل:

فإذا كان انتماؤنا إلى مذاهبنا وطوائفنا وأوليائنا يتقدّم على انتمائنا إلى الوطن الذي نعيش فيه، فما حاجتنا إلى العيش معًا؟ ولماذا لا يقبع كلّ طيف منّا في بقعة من هذه الأرض المستباحة، ليمارس فيها صيرورته كما يشاء؟ وما جدوى الكلام عن العيش معًا، وعن مشاريع الدولة الموحّدة، وعن مشاريع الفيدراليات والكانتونات والمركزية الإدارية واللامركزية؟

أمّا إذا كنا نعتقد أننا شعب صاحب هوية وطنية لا يضيره تنوّع أطيافه، وان لنا وطنًا فريدَا له خصوصيته المكرّسة في تآلف وتلاقح مكوناته ما يُضفي على عيشنا معًا، أبعادًا روحية سامية، تتخطى أقدارنا الفئوية، ولا تعود ملكًا لنا. يصبح حين ذاك من واجبنا سلوك السبيل الأضمن لقيام دولة ديمقراطية معاصرة لشعب موحد الهوية والتطلعات.

هذا ما أراده الشعب اللبناني، وما جسّده المؤتمرون في وثيقة الوفاق الوطني في الطائف. وهذا تمامًا ما عبّرت عنه شابات لبنان وشبّانُه في ثورة 17 تشرين العاميّة، التي لا بد أن تعود أشد مراسًا وأصلب عودًا لتظهير هذه الإرادة.

انقضى أكثر من ثلاثة عقود على إقرار الميثاق في مدينة الطائف.

بعضنا فرح به وراهن عليه منطلقًا لقيامة الوطن فأحبط وانزوى، وبعضنا الآخر ارتضاه سبيلًا إلى إنهاء الحرب القذرة، بدون أن يطّلع على مضمونه، وما زال ينتظر، وبعضنا هلّل له، راجيًا الانقضاض عليه أو القفز فوقه، وما برح يتربّص به، وبعضنا اعتبر أنه ما زال ميثاقًا كالقدر، لا خيار لنا سوى تنفيذ أحكامه بشجاعة، لتفادي الخيار الآخر، وهو زوال الوطن.

وخلافًا للرأي السائد الخبيث، فإن فلسفة الميثاق، قضت ببساطة بألّا يعطي أي من الأطراف الطائفيين ما له، للطرف الآخر، بل أن يعطيا معًا ما لديهما للدولة اللاطائفية المنشودة ولتجنّب عودة الأسباب التي قادت إلى الكارثة.

اختزل الميثاق، في نصوصه المكتوبة الواضحة والدقيقة، المرتكزات التأسيسية للوفاق الوطني، ولم يعد ثمّة مجال للاجتهادات أو التنظيرات. فهو يقضي باستبدال النظام السياسي القائم على التمثيل الطائفي بنظام سياسي لاطائفي، بدون محاصصة بين المذاهب والطوائف، بحيث لا حقوق للمذاهب على حساب الدولة ومواطنيها، ولا تخصيص ولا تقنين لأي مذهب أو موقع في السلطة لمذهب أو لفئة أو عشيرة. الميثاق أخذ من كل الطوائف ما ليس لها وأعاده إلى المواطنين.

كان من المنتظر اعتماد بنود الميثاق، الذي قضى بأن لا شرعية لأي سلطة تناقض احكامه، أساسًا لتعديل الدستور اللبناني بعد الطائف، على اعتبار أن كلّ ما ورد فيه ملزم، وله الأولوية المطلقة على السلطة التشريعية ورأي الأكثرية والأعداد والتعداد، وذلك وفقًا لتراتبية المعايير القانونية Hiérarchie des Normes Juridiques المتعارف عليها في المبادئ الفقهية.

يشكل الميثاق بحكم موضعه الدستوري والقانوني العقد التأسيسي الملزم الذي ارتضاه اللبنانيون أساسًا لقيام دولتهم الحاضنة لخصوصية وطنهم وفرادة شعبه الروحية والثقافية، أما الدستور فهو هندسة قانونية للآلية التي يعتمدها المشرّع لعمل السلطات وتعاونها وتوازنها وفقًا للمعطيات المتغيّرة باستمرار وللتطور الاجتماعي والاقتصادي، فمن غير الجائز أن يطلق جزافًا، على الدستور اللبناني المعمول به حاليًا تسمية دستور الطائف.

لحظ الميثاق في سبيل معالجة رواسب الوباء الطائفي مرحلة انتقالية مخصصة لاستكمال تنفيذ مندرجاته، لا لنقض مبادئه. كان من الطبيعي أن تخصص هذه المرحلة الدقيقة، للتصدي، بحكمة وتروٍّ، الى مكافحة الوباء الطائفي والأسباب الكامنة وراء تفشيه، كان ذلك للقضاء عليه لا لمأسسته، كما حصل تبعًا لتجميد تطبيق المادة /95/ من الدستور التي أناطت بأول مجلس نواب مُنتخب على أساس المناصفة بين جناحي الوطن الموجبات التالية:

– تسمية أعضاء هيئة الحوار الوطني من شخصيات فكرية وسياسية واجتماعية، على أن يرأس هذه الهيئة رئيس الجمهورية، ويشارك فيها كلّ من رئيس مجلس النواب ورئيس الحكومة.

– إقرار الإجراءات والقوانين التي تقترحها هيئة الحوار الوطني لإلغاء الطائفية ورواسبها، يلاحظ أن إلغاء الطائفية تعني فصل الدين عن الدولة تمهيدًا لإلغاء الطائفية السياسية.

– متابعة تنفيذ هذه الخطة.

كان من المنتظر إذًا أن تبدأ المرحلة الانتقالية غداة انتخاب أول مجلس نواب بعد الطائف، على أساس المناصفة بين المسيحيين والمسلمين وأن تنتهي، بعد إقرار إجراءات قيام دولة المواطنة العلمانية المحررة من قيود الطوائف وعار التخلّف، ولكن الانقلاب على الميثاق وتعطيله جمّدا تنفيذ هذه المادة في سبيل استدامة المحاصصة الطائفية الشائنة، ولو حصل ذلك خلافًا للميثاق.

من الواضح أنّ الميثاق لم يُجِز خلال هذه المرحلة الانتقالية توزيع التمثيل الطائفي أو تقنينه لا في الرئاسات ولا في الوزارات، لا في الأعراف ولا في النصوص. فبدعة “الترويكا”، التي تمّ إرساؤها خلال ولاية الرئيس الهراوي والتي زيّنت اقتسام السلطة بين رئاسات طائفية، لا تتعدّى كونها واحدة من الألغام التي زرعها الوصيّ لتشابك المؤسسات الدستورية والاستعاضة عنها بفتاوى الوصاية وإملاءاتها.

كما شاءت سلطة الوصاية، فقد تم استبدال إجراءات المرحلة الانتقالية ببدعة الديمقراطية التوافقية التعيسة تمهيدًا لانزلاق الوطن على طريق الزوال.

فمن هذا المكان المثقل بالتاريخ وبذكريات عاميّة 1840، آمل وأرجو قبل الرحيل، أو الرحيل، أن تنطلق عاميّة جديدة لتطبيق ميثاق الطائف لإعادة الروح الى الوطن الذي لا وطن لنا سواه.


Related Posts


Post Author: SafirAlChamal