″لا يرى نهاية الحرب سوى الموتى″ (أفلاطون الفيلسوف اليوناني)
تندرج الحرب الروسية الأوكرانية ضمن إطار النزاع الإيديولوجي بين النظامين الليبرالي الديمقراطي والديكتاتوري الشمولي وهي بموازاة المعارك الحربية الميدانية تشهد تعبئة إيديولوجية من كل أطراف النزاع حيث ُتظهر أحدث المؤشرات أن النزاعات حول العالم تفاقمت بشكل مقلق في السنوات الخمس الأخيرة وسط مزيج من الدوافع الأيديولوجية والقومية والعرقية والاقتصادية. وهذا الوضع أنتج خليطا من الهواجس لدى المتخصصين والخبراء بشأن طبيعة التغيرات التي يمكن أن تحدث في المستقبل إذا استمر تنامي الصراعات بهذه الوتيرة.
وما تجدر الإشارة اليه فإن للإيديولوجيات دوراً مؤثراً في العلاقات الدولية كما تشكل محركاً حيوياً يذكي نيران الحروب وقد تعاقبت على العالم العديد من الأيديولوجيات التي مثلت الاتجاهات السائدة الرئيسة في دول العالم، بل وشهد العالم صراعات نتيجة اختلاف الأيديولوجيات، وهناك حروب قامت لأهداف أيديولوجية بحتة، وكذلك أُبرمت التحالفات، ووقعت المعاهدات لاعتبارات أيديولوجية، ولذلك يعتبر المنظور الإيديولوجي ذا أهمية كبيرة عند النظر في أمور الحرب والسلام، وهذا ما يدفع هذه الدراسة وعلى حلقات متتالية الى محاولة الكشف وفي كل يوم أربعاء من كل أسبوع عن دوافع ومحركات النزاع الإيديولوجي في الحرب الروسية الأوكرانية التي تترافق مع حجم التدمير الهائل الذي يطال البشر والحجر في منطقة ملتهبة تهدد دون أدنى شك الأمن والسلم الدوليين.
الحلقة الأولى
يبني الدكتور أمين محمد علي أسبر) 1939- 2003) مقدمة دراسته حول “السلام والسلاح النووي” الصادرة عن إتحاد الكتاب العرب في دمشق العام 1995 على التساؤل الذي طرحه الفقيه السويسري في القانون الدولي الإنساني جان سيمون بيكتيت (1914- 2002) حول تحريه ما إذا كانت الحرب هي إستجابة لأقوى غرائز الإنسان؟ ويأتي الجواب سريعاً إن الحرب ظلت طويلاً أهم علاقة بين الشعوب، ويدلل على زعمه من خلال الإحصاءات التي تشير الى أن 14000 حرباً، قد إشتعلت خلال 5000 سنة من التاريخ، وتسببت في موت (5) خمس مليارات نسمة، وخلال الـ 3400 سنة الأخيرة، لم يعرف العالم سوى 250 عاماً من السلام العام.
إذن مشكلة الحرب.. بدأت منذ القدم، وما تزال قائمة حتى يومنا هذا، كانت الحروب محلية جداً ….فأصبحت إقليمية….ثم صارت عالمية أولى وثانية ، وبنفس الوقت فان السلام كان رغبة محلية، فأصبحت إقليمية… وأصبحت اليوم إرادة عالمية، والسلام هو في الواقع هدف تبحث عنه كافة المجتمعات وأن صيانة السلام على المستوى الدولي أصبحت تشكل الشغل الشاغل للدول.
ويهتم عدد واسع من علماء العلاقات الدولية بدراسة أسباب الحروب، سعيًا منهم لمعرفة السبب الرئيسي وراء إندلاعها ويشير السفير الدكتور محمد عبد الستار البدري الى أن ثمة نظريات كثيرة في هذا المجال تسعى إلى شرح أسباب اللجوء للحروب أو الانزلاق إليها. وخصّ عدد منهم الآيديولوجية كعامل محرّك لها ومعظم الحروب الآيديولوجية اندلعت لوجود أسباب أخرى مهمة وراء إندلاعها. وإرتباطًا بهذه الأطروحة وجدت دراسة عملية لعالم العلاقات الدولية أ.كاليفي هولستي يرى فيها أن أفضل خريطة لفهم الحروب الدولية خلال الفترة الممتدة من عام 1648 وحتى عام 1989 (أي بُعيد سقوط الاتحاد السوفياتي). وتعكس دراسته بوضوح أن الدين أو الآيديولوجية لم يلعبا دوراً محورياً كسبب أساسي لإندلاع الحروب على المستوى الدولي، ولكن نظرية «الحروب الجديدة» في العلاقات الدولية، تشير إلى أن من الأسباب الأساسية المؤدية لإندلاع هذه الحروب.. الضغوط التي تفرضها العولمة وتطور وسائل الاتصالات على هيكل الدولة وأنظمتها ومفاهيمها الداخلية بل وشرعية نظام الحكم فيها، خصوصًا الضغوط الثقافية والآيديولوجية.
ويذهب باحث في الدراسات الإستراتيجية هو حسام ميرو الى أن من سمات الحرب أنها بحاجة إلى إيديولوجيا، إذ يصعب على أي طرف أن يشارك في حرب من دون أن تكون لديه سردية يقدّمها لشعبه أو للعالم الخارجي ما وراء الحدود الوطنية، وفي الحرب الدائرة الآن على الأراضي الأوكرانية، ثمة حاجة لدى جميع الأطراف المنخرطة بشكل مباشر أو غير مباشر للاتكاء على سردية ما، تشكّل إطاراً أيديولوجياً، من رؤى وأفكار ومرجعية قانونية، بل وأخلاقية، فالسياسيون والقادة وحتى الجنود بحاجة للإحساس بأنهم ينطلقون في حربهم من موقف أخلاقي، فإطلاق النار يحتاج إلى شرعية، وكذلك فرض العقوبات، والشرعية هنا ينبغي ألا تتشكّل فقط من المصالح العارية، بل تحتاج إلى سند أخلاقي، يجعل من الآخر عدواً، ينبغي تحجيم نفوذه، بل وشطبه من الخارطة إذا تطلّب الأمر.
و في المواقف الرائجة أيديولوجياً في هذه الأوقات المصيرية من تاريخ الكوكب، ثمة محاولة لتصوير الحرب بأنها صراع بين منظومة ديمقراطية/ ليبرالية وبين الشمولية والإستبداد، هذا من جهة الغرب، أما في الإعلام الروسي فهي حرب ضد «النازية» الأوكرانية، ومن ورائها «الرأسمالية المتوحشة»، وهذا الإستدعاء للأيديولوجيا يمكن فهمه على أرضية الحاجة لتبرير المواقف العسكرية والسياسية، لكن هل يمكن فعلاً لأي تبرير أيديولوجي سائد أن يصمد أمام التحليل الإستراتيجي والتاريخي للصراع الدائر الآن بين روسيا والغرب؟. ولقد توصل حسام ميرو الى إستخلاص الفرضية التي ترى أن الصراع في المرحلة المعاصرة لم يعد صراعاً بين غرب وشرق بالمعاني الأيديولوجية التي تمتلكها هذه الثنائية، بل هو صراع لتحديد مكانة ودور كل طرف في النظام العولمي، وبالتالي تحديد سلّم التراتبية في هذا النظام، ما يجعل من أية محاولة لإستدعاء الأيديولوجيا إلى هذا الصراع بلا أية قيمة من الناحية العملية، بل مجرد عملية تجميل غير متقنة لإستخدام أشكال مختلفة من العنف والعنف المضاد، لكن، ولهذا السبب بالضبط، سيكون على العالم أن يعيد ضبط الساعة الأيديولوجية، وإلا فإن ما سيكون هو مجرد صراعات غير مضبوطة أخلاقياً.
وهذا ما لمسناه مع السفير بدري والباحث ميرو حينما كشف خطاب الرئيس الأميركي جو بايدن الذي ألقاه أمام القصر الملكي في العاصمة البولندية / وارسو بتاريخ 26 آذار / مارس من العام الجاري 2022 عن الجهود الموحدة التي تبذلها بلدان العالم الحر لدعم الشعب الأوكراني في مواجهته للتدخل العسكري الروسي حيث دبت الحيوية في حلف شمال الأطلسي وإنبعث مجدداً من تحت الرماد وإزدادت مناعته لكي لا يصاب بالسكتة الدماغية وبدت الولايات المتحدة والحلف كمدافعين أساسيين عن أوكرانيا، ولم يعد هناك مجال للحديث عن الإستقلال الذاتي الإستراتيجي لأوروبا على نحو ما دعا إليه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الماضي 2021 في أعقاب إلغاء صفقة الغواصات الفرنسية مع أوستراليا والإستعاضة عنها بصفقة غواصات تعمل بالطاقة النووية من كلٍّ من المملكة المتحدة والولايات المتحدة.
Related Posts