يمكن إعتبار كتاب د. نزار يونس “الميثاق او الانفكاك” محاولة جدية في زمن عصيب، تهدف إلى سبر اغوار علل نظام متهالك يلفظ أنفاسه الأخيرة، كما تصبو إلى التفتيش عن إنبثاق عقد اجتماعي جديد، يعيد فكرة الوطن النهائي بمعزل عن منطق التسويات الظرفية التي انتجت حروبا وأزمات على مدى عمر الكيان اللبناني.
شبه المؤكد، أن المحاولة المذكورة أقرب إلى المغامرة في ظل الواقع السياسي والاجتماعي الذي يتخبط مأزوما وحالة الانسداد والعجز عن طرح جديد، انحلال الدولة وتفكك المؤسسات شارف على التحقق، مهما بلغت مكابرة اهل الحكم، رغم ذلك تعاند الطبقة السياسية القدر وترفض التنازل عن مطامع تعتبرها مكاسب، بينما الحقيقة الساطعة تكمن في حالة إفلاس متمادية سياسيا وشعبيا، ورغم الاهوال يصر اهل الحكم القبض على رقاب اللبنانيين حتى النفس الاخير.
نزار يونس، بتجربته الشخصية الغنية منذ النضال الطلابي خلال ستينات القرن الماضي وصولا حتى تجربة الانتخابات عند مطلع الألفية الحالية، يدأب في الغوص وتحليل في أسباب علل النظام، كتوطئة من أجل فهم الواقع وإستشراف حلول مفترضة.
في جديده، يربط يونس وبشكل منهجي بين العوامل الأساسية التي تشكل منها إتفاق الطائف كما النقاشات التي دارت في اروقته والظروف المرافقة لولادته، وصولا إلى تحويره بشكل كامل انطلاقا من اغتيال الرئيس الشهيد رينيه معوض، حتى تحقيق ترميم ظاهري في بنية الدولة على اسس طائفية تعاكس تماما الهدف الأساسي، ما يعني أن القصور في معالجة الخلل الحقيقي في عمق النظام أدى حكما إلى الانفجار الكبير.
المستجد، الذي تتهرب منه الطبقة الحالية والذي لا يمكن القفز فوقه، يكمن في الثورة التي اندلعت في 17 تشرين 2019 وخمدت سريعا لكن تداعياتها مستمرة عبر انهيار متتالي ، رغم ان الثورة الشعبية لا تتفق مع فكرة راجت طويلا تدحضت قابلية المجتمع اللبناني لفكرة التمرد والثورة، فلبنان وبغض النظر عن النظام السياسي وتبدلاته، هو وطن قائم على التسويات، وتركيبه الطائفية قائمة على اقتسام مغانم الدولة وتوزعها وفق نمط زبائني كريه.
ثمة رأي او تقييم في أحداث ثورة تشرين، يصفها كأنها هبّة شعبية حصلت رغم أحقية المطالب وبراءة الاندفاع الشعبي ان جاز التعبير، لكنها كانت مخططة ومدبرة ومبرمجة، كونها هدفت إلى نقل لبنان من ضفة الازمة المستعصية إلى ضفة الانهيار الشامل وهذا ما كان يحتاج حدثا جللا وحصل، فالقضية وفق أصحاب هذا الرأي لا يمكن حصرها في فرض رسم على تطبيق واتساب، كما إخمادها لا يمكن بفعل جائحة كورونا والقمع المتمادي للتحركات الشعبية، ما يعني انها ادت الغرض عندما كرست واقعا مغايرا بفعل الاستنزاف السياسي، والخلاصة الأولية هي في افول شكل لبنان القائم على اوهام الازدهار الاقتصادي الدائم، والقدرة على التحايل على الازمات وتجاوزها .
فرضية قابلة للنقاش، ولا يمكن نكرانها بالمطلق، لكن ينبغي الاضاءة الى سلسلة اسباب وعوامل ادت إلى انفجار النظام من الداخل، اولها حدة التناقضات في المجتمع اللبناني واتساع الهوة الاقتصادية والاجتماعية، فضلا عن تراكم مشكلات اقتصادية واجتماعية، كما الفساد الذي عم واتسع داخل إدارة الدولة وأصبح عادة مرادفة لنهج الحكم.
كل ذلك، كان بمثابة تراكمات ادت إلى الانفجار عند ادنى فرصة، حدث ذلك في تشرين وكان قابلا للتحقق قبل وبعد هذا التاريخ، لكن من الضروري القول إن تحركات الشارع ألهبت صدور الحالمين بخيار مدني قائم على المواطنة لا على الانتماء الطائفي، وأيقظت حلمهم الدفين، لكن سرعان ما برهنت الطبقة السياسية عن دهاء استثنائي، كما فعلت في اتفاق الطائف وحتى قبل ذلك، يمكن الجزم بأن السلطة في لبنان نجحت مجددا في الاستثمار بمآسي اللبنانيين، وهي تدأب على التسويق يوميا بأنها جنّبت لبنان الحرب الأهلية أو الفتنة، فكان رجالها اهل الداء والدواء.
مما لا شك فيه، ان الثورة إشكالية كبيرة وتحتاج إلى التشخيص الهادئ والمتأني، لكن بين دفتي “الميثاق او الانفاك” الكثير البسها المؤلف ثوب الوصايا رغم كونه خرج بخلاصات مهمة، اضفى نزار يونس تشخيصه للواقع البائس طابعا وجدانيا ممزوجا بحزن دفين على نموذج فريد من التكوين الحضاري والإنساني كان فرصة نادرة حتى أضحى راهنا خرابا متناثرا في أشلاء وطنه مصيره في مهب الريح.
ما جاء في الخاتمة، نابع من جرح عميق ودمعة حارقة على إهدار العمر بحثا عن وطن يؤمن الطمأنينة لابنائه، خصوصا عند تساؤل يونس المؤلم والتراجيدي “هل من العار ان يدمع الرجال، ام ان لا عار أفدح من أن تموت الرجولة فينا فداء للمذلة والخيانة والغباء؟.
فليس من السهل على مطلق لبناني، التخلي الفوري عن الهوية والثقافة والاستسلام لأزمة النظام السياسي والتعايش مع نمط الانكماش الحاصل وسيطرة نمط الاستعصاء، فالنقمة المتعاظمة لا بد أن تنفجر في النهاية، المآسي كما الأحزان لا تودي بالاوطان إلى الهلاك بقدر ما هي وقود الثورة على الظلم والطغيان.
لذلك، خصص يونس في نهاية خاتمة الكتاب وصية، كمن يودع الحلم في صدر الاجيال الشابة: “وصيتي للثوار، وديعة الآباء والأجداد وكل رجائي الباقي، ان يعوا، أن مصير وطنهم مرهون بصمودهم فيه، وبتضامنهم ووحدة صفوفهم حول هدف الثورة المحوري، وهو العودة إلى الميثاق وتشكيل حكومة إنقاذية لإستكمال تنفيذه. ولن نكسب الرهان ما لم توفر الثورة المدركة والمسالمة و العاقلة درع حمايتها..
Related Posts