من ايام كان ابن 14 سنة والموسيقى تلعب بباله وتشغل هموم الفتى ″جان بالشيون″ بداية بالمعرفة السمعية وبمساعدة ابن الحارة ″عميد نعمة″ وبعدها من خلال دراسة جادة وطويلة لآلة القيثارة وبحسب الأصول الموضوعة لهذه الآلة عالميا مما أوصله الى دراسة الموسيقى في كونسرفاتوار تشايكوفسكي في عاصمة أوكرانيا ″كييف″ ليحصل فيه على درجة ″ماستر″ ومن بعدها الدكتوراه في فلسفة العلوم الموسيقية، ليعود الى لبنان استاذا في المعهد الوطني للموسيقى في بيروت. وبعدها يشغل رئيس قسم الفنون في كلية التربية في الجامعة اللبنانية لسنوات عديدة. هذه مقدمة تعريفية ب ″جان باليشيون″ الذاهب الى الموسيقى من طرابلس والحامل العديد من الخبرات المحصلة من خلال اشتغاله مع مجموعات عديدة من الفرق انجازا لأعمال موسيقية صرفة أو ما يسميها وتسمى الدرامية أو السيمفونية عموما ومن بينها لمؤلفين من كبار المشتغلين في الأعمال المسرحية في لبنان.
اما مناسبة الكتابة عنه والتعريف به فذلك لصدور كتابه الخاص والفريد من نوعه الحامل العنوان الطموح “بيان الموسيقى اللبنانية” الصادر مؤخرا في شهر تموز 2021 عن دار الفارابي والذي يزيّن غلافه مخطوطان من أعمال موسيقية للأخوين رحباني هما راجعون والبعلبكية. وقد أظهر المؤلف الموسيقي “الباحث” ان عمله هذا يأتي بمناسبة مئوية تأسيس لبنان. وانطلق في بحثه من بدايات الاتصال الموسيقي بين الشرق والغرب منذ اتت حملت نابوليون بونابارت التي كانت الموسيقى التي جلبها معه معبرة عن حوالي ثلاثماية سنة من التطور المواكب للنهضة التي اصابت الغرب مع التطور الصناعي. واعتبر ان هذا ارتطام أول لحضارتين معتبرا ان لكل مرحلة تاريخية اجتماعية ما يناسبها من قيم جمالية. فبدأ من تأثير الموسيقى الغربية على العربية قام بتحديد بحثه بالعلاقة بين الإنتاج الموسيقي العربي بأمور ثلاثة: كعلاقة الموسيقى بالتفكير الأوروبي ـ الغربي، وكل ذلك ضمنا بالعلاقة بالتجربة اللبنانية من بين الموسيقى العربية ككل.
ويتحرك “بالشيون” في بيانه، وتبيانه، للموسيقى اللبنانية ضمن العناوين التالية: تحليل المثال الأوروبي، في إشكالية العلاقة مع الموسيقى الأوروبية أو التفكير السيمفوني، العلاقة مع التراث، وفي العلاقة المجتمعية. وعنده في التحليل للمثال الأوروبي يعطي فكرة شاملة عن تاريخ تلك الموسيقى وأشكالها وتنويعاتها وانتمائها الى الأصول اليونانية وبعدها الرومانية وصولا الى مدرسة كنسية وأخرى شعبية وحديثة عن الشكل الأحادي وآخر بتعدد الأصوات والعصور التي قطعتها الموسيقى ومن بينها العصور الوسطى والموسيقى الجديدة.
وبدون الاستفاضة في هذا المبحث، والكتاب يقدم معلومات تاريخية وشرح للأشكال الموسيقية في أسلوب بمتناول المتخصصين والباحثين عن ثقافة عامة وعالمية. وهو يؤكد على “الفردانية” للموسيقى أو للتأليف الموسيقي باعتبارها تحولا عن الإنتاج الإقطاعي الى الرأسمالية الصناعية وانتاج الفرد مقابل آخر. ومع التطور الاحق تحول، او كان الأوان قد حان، للانتقال من التفكير المقامي الى التفكير التونالي بما يشابه تأثير اكتشاف البعد الثالث في الفنون التشكيلية.
وكان الوصول الى شكل الأوبرا كما شكل السيمفونية، هذا القالب الذي مثل جوهر التفكير الجمالي عند “هايدن”، وقد فصّل “بالشيون” هذه النقلة وشروطها بالقوالب والخلفيات الاجتماعية والسمة المميزة لها وتحول الموسيقى الى الدرامية كما من الشعبية التقليدية الى الفردانية الحديثة وكل أنواع الأغاني التي تبعتها. وقارن بذلك بين تاريخ الموسيقى العربية وخصائصها مع الفروقات الكبيرة بينها وبين ما هو جزء منها الى اختلاف تكوّن بنية المجتمع. واعتبر ان ابرز الذين واجهوا هذه المسألة هم “توفيق سكّر” و”الاخوين رحباني”.
اما عن إشكالية العلاقة مع الموسيقى الأوروبية أو التفكير السيمفوني ومن بعدها كل من انغمس في هذه الطريق وبما خرج به من خلال تجربته المختلفة والذين قاموا بمزج الأغنية الحديثة بالفلكلور ومن بينهم ما صنعه “توفيق الباشا” سيمفونيا و”زكي ناصيف” الذي بقي في اطار الأغنية. وكما كانت ايضا تجربة “وليد غلمية” قاطعة مع تجربته المتعلقة بالتأليف للموسيقى الشعبية فتحول الى السيمفونية.
بعدها يأخذ من عملية دراسة اعمال الأخوين رحباني الفرصة ليتبنى الحيز الأكبر متنقلا من اسكتشات الفلكلور الى ما يعبر عن عبقرية “الأخوين” في تجسيدهم لأفكار العصر وأثر موسيقيين روس عليهم كما الأثر الكبير للقضية الفلسطينية من خلال حدوث النكبة 1948 التي انجبت منهم عملا غير مسبوق في الموسيقى اللبنانية وهو “راجعون”. وتنوعت بعدها الافكار الكبيرة التي اسرتهم بحسب المواضيع التي طرحوها في اعمالهم المسرحية كما في الليل والقنديل، ناطورة المفاتيح، فخر الدين الخ وغيرها وهي كثيرة حين تحدثوا عن موضوعة الحرية والبطولة والظلم الاجتماعي وغيرها.
هذا التناول التفصيلي للأخوين جعله يمر على الجيل الثاني بدراسة تفصيلية ايضا مقترحا وجوب اجراء اصلاحات من نوعيات مختلفة منها خلط الانماط بين كوميديا وغيرها لصالح القصور الدرامي وكونه يعتبر ان على الدراما يجب ان تصبح اساسا في تطور القوالب الموسيقية. وأشار الى الأغنية الملتزمة أو السياسية بكونها متصلة بالتجربة الرحبانية. ومن ثم دخل بدراسة تحليلية مقارنة مع “أحمد الزعتر” واحدة من موسيقى خالد الهبر وثانية بنفس النص والاسم ومن تأليف محمود درويش وهي من نتاجات مرسيل خليفة الموسيقية. وتحدث ايضا عن تفصيله إشكالية المقامية والتونا لية وكيف وجدت لها انعكاسا على هذا النوع من الأغنيات الملتزمة، وعلى اعتبارها تأتي من نصوص تنتمي لشعر عربي حديث. وخلص الى كون التجربة لم يكتب لها النجاح، بشكل من الأشكال، لانحصارها حول اجواء تراث سيد درويش الضيق.
وطرح أخيرا العلاقة مع التراث وليس كنتاج للتطور الموضوعي انما للتغلغل الأوروبي والخلافات التي تبنيها تلك الفروقات. ويذهب “بالشيون” بعد الحديث عن البداوة المتغلغلة بالموسيقى وغيرها من الشؤون ليعود فينوه بأعمال كل من توفيق سكّر وتوفيق الباشا.
“بيان الموسيقى اللبنانية” قد يكون فريد من نوعه وريادي في مباحثه وهو بالتأكيد يحتاج الى قراءات عديدة ومتعددة تفصّل لكل مبحثا واحدا من مباحثه على خلفية استعادة تفصيلية لما ذكره من أغاني ومقطوعات موسيقية ومسرحيات. لأن الجهد الذي قدمه “جان بالشيون” يستأهل هذا الشغل لما في عمله من بعد تأريخي وبحثي مقارن ودقيق.
ولا يفوتنا الإشارة الى ان هذا البحث المطول والمحدد لمصادر الموسيقى اللبنانية هو من اهتمامات الباحث العملية ايضا والتي صدر عنها الكثير من المساعدات العملية التي ساهمت بإنجاز أعمال موسيقيين توزيعا موسيقيا وكتابة اوركسترالية واشتغالا على الموسيقى الكبرى العالمية وهذا ليس بالأمر والشأن البسيط ان يكون الشخص دارسا وباحثا من جهة ومهتما بالتطبيقات العملية لما يبحث في شؤونه. وقد سبق وقام بإنجاز اكثر من عمل لأكثر من موسيقي يكتب موسيقى عالمة له ويعيد توزيعها وهو يحضر لنتاجات باشر في الغوص في كتابة تطبيقات لها وهي، لكي تنتهي تنتظر الظروف، وهي بالتأكيد سترى النور عروضا على المسرح أو مسجلة في البومات أو منشورة على “سي دي”.
مواضيع ذات صلة: